جسر: رأي:
يحشد نظام الأسد قواه ومؤسساته للانقضاض على موارد شمال شرقي سوريا، بعدما أذعن الأكراد للضغوط وانخرطوا معه في تسوية شبيهة بتلك التي نُفذت بالفعل في حوران؛ لكن “سوريا الغنية” التي يشيع النظام أنها ستكون الترياق لكل مشاكل وآلام “سوريا المفيدة”، هي في الواقع، وبعد عشر سنوات من الخروج العنيف عن السيطرة، ليست سوى “سوريا الحرجة”، التي يمكن أن تتحول إلى مُنطلَق وبؤرة ثورة جديدة.
تشمل منطقة شمال شرقي سوريا، محافظات دير الزور والرقة والحسكة، وجزءاً من أرياف حلب، وتزيد مساحتها على 40% من مساحة سوريا، وتقطنها حسب إحصاءات النظام للعام 2011، حوالة خمسة ملايين نسمة، مكوّنين من العرب والأكراد والسريان والآشوريين والأرمن والتركمان والأزيديين.
وقبيل الثورة، كانت هذه المنطقة ترفد البلاد بنحو نصف مواردها، فهي تضم 42% من المساحة القابلة للزارعة، وتنتج 58% من إجمالي القمح، و78% من إنتاج القطن و72% من محصول الذرة الصفراء، وتضم نحو 41% من عدد رؤوس الماشية نسبة إلى كامل القطيع السوري، وتنتج آبار النفط فيها 360 برميلاً يومياً، أي نحو 95% من كامل الإنتاج السوري”.
لكن، ووفقاً لتقرير الفقر في سوريا 1996-2004 (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، فإن “المناطق الشمالية الشرقية، سواء كانت ريفية أو حضريّة، شهدت أعلى معدلات الفقر، سواء من حيث انتشاره أو من حيث شدته أو عمقه”. و”الفقر المدقع يزداد في الإقليم الشمالي الشرق أربع مرات عن الإقليم الساحلي”.
وأطلقت المنطقة، في العقد الأول من الألفية الثالثة، أوضح إنذارين على وصول الوضع في البلاد إلى حافة الانفجار. الأول هو الانتفاضة الكرديّة في القامشلي العام 2004، والتي قمعها النظام بالعنف الأمني والعسكري مستعيناً بالقبائل العربية، لكن أبناء تلك القبائل ما لبثوا أن أطلقوا إنذاراً بدورهم بعد سنوات قليلة، عندما هَجَر بين عامي 2005 و2010، نحو مليون شخص من العرب مناطق الشمال الشرقي بسبب تردي الأوضاع المعيشية، وسكنوا في مخيمات بائسة على أطراف المدن الداخلية طلباً للرزق، وهو إنذارٌ بذَلَ النظام قصارى جهده لإبقائه صامتاً.
على هذه الخلفية التي تتضمن مشاعر عالية من التهميش النسبي، أصبحت كل من محافظتي دير الزور والحسكة، مركزان بارزان للاحتجاج ما أن تفجرت الثورة، وقادت الحراك في الحسكة التنظيمات الكردية المتمرسة، فيما تصدت عشائر دير الزور للعمل شبه المنظم وفق شبكات قبلية واسعة النطاق. وسرعان ما انزلق المكوِّنان إلى العمل المسلح، فظهرت الكتائب المقاتلة في دير الزور وسيطرت على معظم أرجاء المحافظة، فيما توافد كوادر ومقاتلو حزب العمال الكردستاني إلى محافظة الحسكة وشكلوا وحدات حماية الشعب. ومع ظهور الجهاديين في المنطقة العربية، تزايد حضور الأكراد المتشددين في الجزيرة العليا. وسرعان ما غُيّبت الأصوات التي تصوب في اتجاه الهدف الرئيسي، وهو إسقاط النظام، فوجّه كل من الطرفين اهتمامه للآخر، وغذّى النظام هذه النزعة بتسليم مقاتلي حزب العمال الكردستاني حقول النفط في الحسكة، وتسليم حقول دير الزور للتنظيمات الجهادية. فنمَت القوتان، وتضخمت آمالهما، حتى أصبح من المستحيل إيجاد صيغة للتفاهم بين من يعتقدون أن دولة كردية باتت قاب قوسين أو أدنى، وبين أولئك الذين أعلنوا عودة الخلافة الإسلامية.
وعندما بدأ التحالف الدولي عمله ضد تنظيم داعش العام 2015، رفض الجيش الحر الانخراط في العمل إلى جانب الأكراد لعدم منحهم الشرعيّة، ومن نافل القول إن أصابع تركيا القلقة من الورم الكردي على خاصرتها الجنوبية كانت حاضرة بقوة. وتفاقم الوضع أكثر عندما رفضت المعارضة الرسمية السورية المرتبطة بأنقرة، إشراك الوحدات الكردية التي أصبح اسمها قوات سوريا الديموقراطية، في هيئتها للتفاوض مع النظام، ومنع “قسد” لأي نشاط لتلك المعارضة في مناطق سيطرتها.
على خلفية هذه المعطيات من التناحر الداخلي وإفناء القوى الذاتي، كان من الطبيعي أن تكون الكلمة العليا في الجزيرة للقوى الخارجية، وهيمن الأميركيون طوال فترة وجودهم النشط. لكن، مع انتهاء الحرب على داعش، وبروز رغبة واشنطن في الانسحاب، بدأت المنطقة بالتفتت بين روسيا وتركيا وايران، والأطراف الثلاثة يدعمون عودة سيطرة نظام الأسد، إذ تستهدف إيران التغلغل بين القبائل العربية السنيّة، وتتطلع روسيا إلى حقول الغاز والنفط التي أجرت اتفاقيات مسبقة مع النظام لاستثمارها، أما تركيا فلن تقبل بأقل من تفكيك مشروع الحكم الكردي مرة وإلى الأبد، وهي المهمة التي تريد تجنيد نظام الأسد لها، مقابل التخلي عن أوراقها في شمال غربي البلاد.
ولأن سلوك نظام الأسد سهل التنبؤ، فإننا نكاد نجزم بأنه سيسارع إلى تشغيل آليات النهب القصوى لخيرات الجزيرة السورية، فيما سيُبقي على مناطق معينة وبعض الموارد تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، لتكون قاعدة تدريب وتجهيز لمقاتليه بشرط أن تتوجه حرابهم نحو الدولة التركية. بدورها، تركيا التي تستضيف ما لا يقل عن مليون ونصف المليون من أبناء الجزيرة، تنتظم نخبهم في كيانات عسكرية وسياسية وعشائرية، ستضغط من خلالهم على النظام والأكراد معاً، لتصبح الجزيرة قطب رحى لصراع جديد يجعل مجتمعاتها أكثر تشتتاً، واقتصادها أكثر فقراً وتدهوراً. ولن يكون أمام سكان المنطقة سوى الرحيل والهجرة بشكل جماعي، كما فعلوا في العقد السابق على الثورة، وهي عملية بدأت فعلاً، وتكاد المنطقة تخلو من الجيل الشاب، باستثناء حملة السلاح.
تجنيب الجزيرة السورية هذا المصير الأسود، يقتضي بلورة خبرة نصف قرن مع نظام الاستبداد، في عملية سياسية بعيدة المدى والنظر، تقودها النخب التي أفرزتها تجارب السنوات العشر الماضية من كافة المكونات، وترتكز على تطلعات خمسة ملايين ساكن سيعمد النظام إلى الانتقام منهم، وسيثورون عليه مجدداً بلا شك، عندما تصل آليات النهب إلى آخر رغيف خبز بين أيديهم.