جسر – صحافة
قرابة خمسة أسابيع بكل ما تحمله من مآسٍ انقضت على ما أطلق عليها “قيصر” الكرملين بالعملية الخاصة التي يقوم بها جيشه لاجتياح كامل مكتمل الأركان وحرب لا هوادة فيها ضد جمهورية أوكرانيا، لتحقيق أهداف معلنة بل ربما وأهداف خفيّة يتجاوز سقفها كثيرا عما أعلن عنه من الأهداف المعلنة التي تتلخص بضمان حياد أوكرانيا وعدم دخولها أية أحلاف، واجتثاث النازية وتدمير قدرات “كييف” العسكرية و التسليحية، والاعتراف بإقليم “دونباس” مستقلا إلى جانب الاعتراف بتبعية شبه جزيرة القرم للاتحاد الروسي.
خمسة أسابيع تمرّ ولا تزال العمليات العسكرية للجيش الروسي مصابة “بالشلل” والعقم التكتيكي الواضح والعجز الميداني في إحداث أي اختراقات نوعية على الجبهات والمحاور الشمالية والجنوبية والشرقية. اللهم إلا تمكّنهم من السيطرة على مدينة “خيرسون” التي تقع جنوب البلاد على السواحل الشمالية للبحر الأسود. بالإضافة إلى تقدمات محدودة للانفصاليين في بعض البلدات في إقليم “دونباس” وحصار مدينة “ماريوبول” الواقعة على سواحل بحر “آزوف”.
الجيش الأوكراني وصمود لافت
منذ اندلاع هذه الحرب زوّد حلف “الناتو” ودول أوروبا الشرقية الجيش الأوكراني بعشرات الأطنان من الأسلحة والمعدات العسكرية التي أعانتهم في الوقوف والصمود بوجه الغزو والمد الروسي على مختلف الجبهات الواسعة التي افتتحها على الجهة الشمالية انطلاقا من الأراضي الروسية والبيلاروسية وشرقا من إقليم “الدونباس” وجنوبا انطلاقا من شبه جزيرة “القرم” وأيضا عبر إنزالات بحرية من البحر الأسود، ويأتي في مقدمة هذه الأسلحة صواريخ الـ م/ د من نوع جافلاين (الرمح) الأميركية وصواريخ (إن لاو) البريطانية وصواريخ الـ م/ط (ستنغر) التي جعلت الطائرات وأرتال الدبابات الروسية ومدرعاته أكواما من الخردة المحروقة المتناثرة على كل الجبهات والمحاور القتالية.
أما الأهم من ذلك فهي المعلومات الاستخبارية والاستطلاعية الدقيقة والمتواصلة التي تقدّم للقوات الأوكرانية من قبل واشنطن والناتو عن تحركات ووجود القوات الروسية على أرض المعركة، التي ساعدت إلى حد كبير طائرات “البيرقدار” التركية والمقاتلين الأوكران على أعداد وتجهيز الكمائن المتنوعة والمفاجئة التي تسببت في اصطياد عشرات الأرتال الروسية وإيقاف زحفها باتجاه المدن الرئيسية.
خطة الجيش الروسي وفكرة أعماله:
من خلال متابعة المشهد والخريطة الميدانية وسير الأعمال القتالية خلال شهر مضى فالملاحظ أن فكرة الأعمال الرئيسية للجيش الروسي قد تمحورت بالإصرار على الوصول إلى المدن الرئيسية لمحاصرتها وإسقاطها وتم التركيز خاصة على جبهة العاصمة “كييف” ومحيطها وبحسب السيناريو الآتي:
- حملة من القصف الجوي والصاروخي على الأهداف الحيوية والمطارات ومستودعات الأسلحة وغيرها من الأهداف التي ستنعكس سلبا على قدرات الجيش الأوكراني وصموده وتؤدي به إلى الانهيار.
- تقطيع الأوصال للجغرافيا الأوكرانية وقطع طرق الإمداد وتنفيذ مناورات الإحاطة والالتفاف العميقة للوصول إلى المدن لتطويقها من التخوم والمشارف البعيدة.
- السعي للسيطرة على مدينة “ماريوبول” على بحر آزوف وعلى مدينة “أوديسا”على البحر الأسود بعد أن تمت السيطرة في بداية الغزو على مدينة “خيرسون” الساحلية، وبذلك ينتهي أي ارتباط للأراضي الأوكرانية مع سواحلها وموانئها الاستراتيجية المهمة.
- تضييق الحصار من خلال القضم التدريجي لمحيط المدن مصحوبا ذلك مع قصف مدفعي لإجبار أكبر كمّ من المدنيين على الخروج من المدينة أو استخدامهم كأداة ضغط على المقاتلين لإلقاء سلاحهم والاستسلام.
- التضييق أمنيا ومعيشيا على المقاتلين والمدنيين المتبقين في المدن باتباع أسلوب التجويع وقطع الماء والكهرباء والتدفئة والخدمات الطبية.
- البدء وبالنفس الطويل باستنزاف ذخائر ومؤن المقاتلين وإضعاف مقاومتهم عن طريق افتعال المناوشات النارية الدائمة.
- اقتحام المدينة وذلك بعد تقسيمها إلى مربعات وأحياء والبدء بتطهيرها وعزلها بالتتابع وكل على حدة.
من خلال المتابعة فإن من أهم الصعوبات التي وقفت في وجه الجيش الروسي والتي أدت إلى بطء سير عملياته وانخفاض وتيرة هجومه وتكبده الخسائر الفادحة في العدة والعتاد أستطيع أن أجملها بما يأتي:
- طبيعة الأرض والفصل والطقس.
- المقاومة الشديدة والصمود الدفاعي البطولي الذي يبديه الجيش الأوكراني.
- معارك الاستنزاف وتكتيكات قتال خطوط الإعاقة والكمائن التي يقاتل بها الجيش الأوكراني، والتي أرهقت إلى حد كبير القوات الروسية الغازية وأصابتها بالإحباط وانخفاض الروح المعنوية.
- الخسائر الكبيرة التي تلقاها الجيش الروسي في العدة والعتاد يقابله ضعف ملحوظ في القدرة والكفاءة والمرونة في استكمال نسبة الخسائر.
- طول الطرق وخطورتها التي انعكست على صعوبة إمداد القوات باحتياجاتها اللوجستية للحفاظ على وتيرة الهجوم (الوقود والمؤن والذخائر والإصلاح والقفل الفني).
- ضعف في التغطية الجوية للأرتال وذلك نتيجة لوجود كمائن صواريخ الستنغر المنتشرة على كامل الجغرافيا الأوكرانية.
فكرة أعمال وأساليب قتال الجيش الأوكراني:
مما لا شك فيه أن كل الدلائل والتحليلات كانت تشير إلى أن الجيش الأوكراني وبالنظر إلى الفارق الشاسع في ميزان القوى والوسائط ونسبتها والتفوق الواضح والكبير للقوات الروسية فيها، فإن كلّ المؤشرات كانت توحي بأن هذا الجيش المتواضع لن يصمد طويلا أمام الترسانات الروسية البرية والبحرية والجوية، وسينكسر ويهزم أمام وقع الضربات والهجمات الروسية العنيفة التي تستخدم فيها أحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية الروسية. ولكن الواقع الميداني على ما يبدو وبعد دخول الحرب أسبوعها الرابع قد أسقط جميع هذه الحسابات والتوقعات والتحليلات أقلّها في الوقت الحالي، وذلك بسبب الصمود والثبات والإصرار غير المتوقع والمفاجئ الذي أبداه الجيش الأوكراني وحقيقة وللإنصاف يدير قادة هذا الجيش وأركانه معارك دفاعية لافتة في نتائجها تحسب لهم حتى الآن.
لقد استنتج القادة العسكريون والمخططون الأوكران ومنذ بداية المعارك عدم جدوى خوضهم معارك “كلاسيكية تقليدية” أمام القوة الروسية الجارفة وأقصد هنا قتال الدفاع من “التماس المباشر” أو “عدم التماس المباشر” أو حتى في خوض المعارك “التصادمية” ولذلك كانت فكرة المعركة لديهم متجهة لخوض معاركهم بأسلوب حروب الاستنزاف وقتال الكمائن والإغارات وخطوط الإعاقة وأعمال المفاجأة على خطوط تقدم القوات الروسية، وعلى طرق إمدادهم وعلى تخوم ومشارف المدن فكبدوا من خلال هذه التكتيكات المفاجئة القوات الروسية الخسائر الفادحة بالأرواح والمعدات، وجعلوا الأرتال المدرعة والميكانيكية أيضا عرضة لضربات طائرات البيرقدار التركية التي أثخنت ودمرت العشرات من الدبابات والعربات المدرعة.
ختاما.. من خلال ما مر من أيام فالملاحظ التخبط والعشوائية وسوء إدارة المعارك من قبل الأركانات والقيادات الميدانية الروسية وصعوبة الوصول إلى تحقيق الأهداف الخاصة التي أراد “بوتين” الوصول إليها بسرعة خاطفة، وهذا ما عكسته كثرة الخسائر البشرية في العدة والعتاد التي تتكبدها القوات الروسية على العديد من الجبهات والمحاور من دون إحداث أية اختراقات مهمة تحسب لهم سوى عمليات التدمير التي يقومون بها للمنشآت والبنى التحتية الأوكرانية، والسؤال هنا هل سيكون للأيام المقبلة تغيير للمعادلة مع تغيير ومراجعة الخطط والأساليب واستخدام القوات الروسية للعتاد الحديث والصواريخ فرط الصوتية وإعادة تجميع القوات وزجّ قوات قتالية أخرى في الميدان؟! ننتظر ونراقب ونرى.