رانيا مصطفى
أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن بلاده ستقوم بعملية عسكرية جنوب البلاد، في شمالي شرقي سورية، لتوسيع المنطقة التي سيطر عليها في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، “نبع السلام”، لتشمل كامل الحدود السورية التركية بطول 470 كلم وبعمق 32 كلم؛ يريد منها أردوغان أن تكون منطقة آمنة لإعادة مليون مهجّر سوري على الأراضي التركية، ولفرضها أمرا واقعا على واشنطن وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ضمن مفاوضاته مع الحلف، وبيده ورقة التحفظ على قبول عضوية فنلندا والسويد.
تركيا عضو مهم لدول حلف الناتو، خصوصا الأوروبيين، باعتبارها ثاني أكبر الجيوش في الحلف بعد الجيش الأميركي؛ لكن موقفها من الحرب الروسية في أوكرانيا ليس مطابقاً للموقف الأوروبي، ولا تملك مخاوفهم تجاه تقدّم روسيا باتجاه أوروبا الشرقية، وهذا أعطاها إمكانية أن تلعب دور الوساطة بين الحلف وموسكو. تتركّز مخاوف تركيا في الهوامش السورية، على حدودها الجنوبية، حيث ما زال التحالف الدولي، بقيادة أميركا، يقدّم الدعم لجماعات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وعناصر مقرّبة من حزب العمال الكردستاني ووحدات الحماية الكردية وغيرها. ليس لأنقرة مبرّرات قوية بشأن تحفظها على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، ومطالبها للبلدين بتسليم عناصر من حزب العمال الكردستاني أو أنصار الداعية عبد الله غولن، والتوقف عن تقديم السلاح والدعم لجماعات “قسد”، وهما لا تقدمان الكثير، ليست إلا من باب الضغط على واشنطن ودول الحلف لقبول ملف المنطقة الآمنة شمال سورية، وتقديم التمويل اللازم لبناء الوحدات السكنية فيها.
لا ترغب واشنطن بإعطاء تركيا حجماً كبيراً في سورية، ولن تسمح لها بعملية عسكرية واسعة شمال شرقي سورية؛ ربما تسمح لها ببعض التوغّل، أو تعطيها جيوباً جديدة، وعلى الأرجح أنها لن تسمح لها بتجاوز منطقة عين عيسى الاستراتيجية، باعتبارها تقع على عقدةٍ طرقيةٍ تصل بين الطريق الدولي إم-4 من حلب إلى الحدود العراقية، والطريق الحدودي، وكانت، بعد انسحابها من المنطقة في 2019، قد تركت لروسيا مهمة تحجيم التوغل التركي، وأن تتمركز القوات الروسية وحرس الحدود التابعة للنظام في تلك العقدة، وتفصل بين قوات “قسد” وجيش تركيا. تغير الظرف اليوم، فالكرملين قلّل تركيزه على الملف السوري، وهناك انسحابات روسية عسكرية طفيفة من بعض المناطق، واكتفاء بحماية قاعدتي حميميم وطرطوس العسكريتين، وتوسّع في النفوذ الإيراني على حساب ذلك، وعودة أميركية إلى الاهتمام بسورية، وشمالها تحديداً، بعودة قواتها إلى قاعدتها القديمة “خراب عشك”، في عين العرب (كوباني)، وبطرحها الترخيص رقم 22، الذي يعفي مناطق في الشمال السوري، بعضها خاضع لسيطرة الإدارة الذاتية، وأخرى للسيطرة التركية، من بعض عقوبات قانون قيصر، باستثناء منطقة سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب، وكذلك عفرين وتل رفعت، والسماح بإعادة إعمارٍ جزئية في بعض القطاعات. وعلى الرغم من أن تركيا عارضت استثناء مناطق الإدارة الذاتية من العقوبات، باعتباره سيمهّد لاعتراف سياسي بحزب العمال الكردستاني، وطالبت بأن يشمل الإعفاء منطقة إدلب، فإنها، في الواقع، ستستفيد اقتصادياً من هذه الخطوة الأميركية، بسبب قربها الجغرافي من تلك المناطق.
من الممكن أن تصل واشنطن وأنقرة إلى توافقاتٍ مقابل انضمام هلسنكي واستوكهولم إلى حلف شمال الأطلسي؛ سورياً، قد توافق واشنطن والحلف على إنشاء منطقة آمنة محدودة المساحة، وتقديم الدعم المالي لها، وإعادة مليون سوري مهجّر في تركيا، وعلى الأغلب أن يكون هؤلاء من الحلقة الأضعف، أي من سكان المخيمات في الأراضي التركية، وعبر ممارسة ضغوط تركية على هؤلاء، الأمر الذي سيعزّز موقف الرئيس أردوغان في الانتخابات المقبلة، وفي الوقت نفسه، نقاش موضوع البدء بإعادة الإعمار في المناطق المعفاة. ما ترغب إدارة بايدن بتقديمه لتركيا هو خارج الملف السوري، فقد كان هناك انفتاح أميركي سياسي واقتصادي وعسكري على تركيا؛ حيث توقفت واشنطن عن انتقاد أنقرة في الملفات الإنسانية، وتحفظت على مشروع يوناني – قبرصي – إسرائيلي لإنشاء خط أنابيب لنقل الغاز المتنازع عليه شرق المتوسط إلى أوروبا، وهناك اجتماع لرجال الأعمال أميركي – تركي في يونيو/ حزيران المقبل بعد توقف عامين، وإعفاءات من بعض العقوبات على الصناعات الصاروخية، فيما يجري النقاش لحل الخلاف الكبير بشأن إخراج تركيا من برنامج بناء الطائرات إف – 35، بسبب قبولها شراء منظومة الدفاع الروسية إس – 400، وتعويضها عن خسائرها في البرنامج البالغة 1.4 مليار دولار، بصفقة طائرات أميركية إف-16، إذا ما استطاعت إدارة بايدن إقناع النواب المعارضين للصفقة في الكونغرس ومجلس الشيوخ.
بالنسبة للولايات المتحدة، ما زال خطر صعود الصين في أولوية اهتماماتها. أما بقية الملفات، بما فيها الغزو الروسي لأوكرانيا، فهي تكتفي بالإمساك بكل الخيوط، واستثمار الحدث في إضعاف كل الأطراف أو إخضاعها لرغبتها؛ فروسيا ستخرُج من الحرب الأوكرانية ضعيفة، رغم تقدمها البطيء، ورغم عدم الفاعلية الكبيرة للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وكذلك تستغل التقدم الروسي في أوكرانيا، والحاجة الأوروبية إلى التسليح وتوسيع حلف الناتو، والتحفظ التركي على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، في إضعاف دول الاتحاد الأوروبي، المنهكة اقتصادياً بعد أزمة كورونا، وبسبب الغزو الروسي، وضمان تبعيتها السياسية لإرادة واشنطن؛ وتريد الاستفادة من الموقع الجيوسياسي لتركيا، بأن تلعب دور الوساطة في الأزمة مع روسيا، ودوراً موازناً للنفوذ الروسي في إقليم ناغورني كره باخ وقزوين، ودوراً مهماً في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، وكذلك لتركيا دور في المنطقة العربية، بعد تحسين علاقاتها مع مجلس التعاون الخليجي ومصر وإسرائيل، فيما ترغب واشنطن بتحجيمها في سورية والعراق.
رغم حدّة الخلافات الروسية الأميركية، ما زالت واشنطن تعترف بأن سورية منطقة نفوذ روسية، ولن تسمح لإيران بتجاوز خطوطٍ حمر فيها، كالتوغل شرق الفرات أو قرب الحدود مع إسرائيل، ولن تسمح بسيطرة أكبر للمعارضة التابعة لتركيا. وبالتالي، سيظل الملف السوري على هامش الاهتمامات الدولية؛ في حين أن استمرار المخاوف الأمنية التركية من الخطر الكردي يقيّد مطامح تركيا الإقليمية، ويبقي تركيزها في حدودها الجنوبية، على الهوامش السورية.
المصدر: العربي الجديد