عبد الناصر العايد
بعد مقالة أولى عن كتاب “سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية”، للكاتب والباحث والسياسي السوري برهان غليون، هنا مقالة ثانية وأخيرة عن نقد المؤلف للحداثويين والتنويريين العرب وجوانب أخرى من الكتاب.
يرى برهان غليون أن التقليد والتراث لا يمكنهما، في الشروط الطبيعية، أن يهزما الحداثة، لما للأخيرة وقيمها وابتكاراتها وأفكارها من جاذبية شديدة. لكن العجز الدائم عن امتلاكها تسبب في الإحباط والنقمة والاستعداد الكامل للثورة، والسؤال هنا برأيه ليس هل إن مجتمعاتنا وشعوبنا تقبل الحداثة أو ترفضها، بل هل إن لدينا حداثة بالفعل أم لا؟ وهل أوجدنا المؤسسات التي يفترض أن تنجزها وعلى رأسها الدولة الحديثة؟ وهنا يجيب غليون بأن كفاح النخب الثقافية لترسيخ الحداثة عبر مواجهة التراث، تشبه عملية خلع الأبواب المفتوحة بالفعل، أو ما يسميه الفقهاء بالجهاد بلا عدو، والقضية ليست إقناع الجمهور بأسبقية الأخذ بأسباب المدنية والحضارة وامتلاك الحداثة، بل في الحداثة التي تُقدم لهم وما إذا كانت حقيقية أم مزيفة.
يقول غليون: “فبدل البحث في الشروط التاريخية التي حكمت تطور المجتمعات أو قطعت عليها طريق تطورها الطبيعي، نحا الباحثون إلى التدقيق في هوية هذه المجتمعات وثقافتها”. ويعتقد أن منشأ هذا المنهج الذي حرَف النقاش في مجتمعاتنا وبين نخبنا عن جوهره السياسي وركز على الدين وقابلية الإسلام لقبول الحداثة أو المدنية، اختطّه في الأساس بعض المستشرقين، وأن مثقفي حقبة ما بعد الاستعمار أمعنوا في الترويج له لتبرير الفشل الذي وقعت فيه محاولات التحديث، بإلقاء المسؤولية على الشعب وثقافته العامة السائدة، أي الدينية، التي كان أحد أبرز مظاهر فشل النخبة هو عجزها عن استبدالها. ويجد أن صعود الإسلام السياسي العنيف في العقود الماضية، جاء ردّاً على “خيانة” الحداثة لوعودها التي دفعت الكتل الشعبية إلى إعادة إحياء مؤسساتها الأهلية كمَهرب من العدمية، ومصدر للشرعية والعنف الموجه للحداثة وما يمثلها بوصفها مصدر استلاب وعنف مستبطن والرد عليها بعنف ظاهر. وهذا ما يدعوه للاعتقاد بأن الحداثة السائدة في العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار لم تنتج سوى نقيضها.
وفي سياق نقده للتنوير العربي، يرى غليون أن الفكرة التي حاول التنويريون ترسيخها حول الجهل الكامل للشعوب واستحالة تخليصها من براثن الدين، سرعان ما وجدت فيها السلطات الحاكمة بغيتها المنشودة لتبرير احتفاظها بالسلطة وتفسير خسارتها لمعركة الحداثة ذاتها والتملص من أي نقد يوجه لها. وحلّت معركة التنوير بذلك محل المعركة الأساسية، وهي تغيير شروط حياة الناس والتنمية، وتحولت النخب المثقفة من مهمة قيادة المجتمع في معاركه، إلى فئة تنشد الانفصال المتزايد عن الشعوب وإدانتها وتقريعها ليل نهار، متهمة إياها بالجمود والتخلف والتمسك بالماضي، وفي الوقت نفسه منحت بذلك الشرعية للسلطات الحاكمة لاحتكار السلطة والاستمرار فيها.
ويصف غليون عملية “قلب” التنوير ليصبح هدفه إثبات أن الشعب “رعاع” لا يمكن إصلاحهم بالتنوير المعكوس. فالتنوير الأصلي لم يأت للتمييز بين أصحاب عقل وأتباع دين، بل أكد على وحدة الناس في امتلاكهم جميعاً وبالتساوي، مَلَكة العقل، ومن ثم قدرتهم على قدم المساواة وأهليتهم للارتقاء بوعيهم وأخلاقياتهم، وهذا هو جوهر مبدأ الكونية الأساسي في ثقافة عصر الأنوار والذي يعني الاعتراف بالاستعدادات العقلية الواحدة لكل البشر وعدم جواز التمييز بينهم بسبب درجة الثقافة والعلم، فهم جميعاً قادرون على إدراك القيم الأساسية وتمثلها في الشروط الطبيعية. ومن الاعتراف بالمساواة بين الناس جميعاً، ولدت فكرة السلطة النابعة من الشعب، لأن الشعب عاقل والناس جميعاً قادرون على الاحتكام للعقل. وهذا أيضاً جوهر فكرة الدولة- الأمة، وهو أيضاً أساس الديموقراطية وحكم الناس لأنفسهم بأنفسهم، فلا مناصب محجوزة لفرد أو جماعة، بل إن المواقع كلها مفتوحة للتنافس، وعلى كل فرد أن يثبت جدارته أمام أقرانه، لا فرق بين غني وفقير، وجاهل ومتعلم. وهكذا نشأت على وجه التحديد فكرة الدولة الحرة أو جمهورية المواطنين.
يضع غليون يده أيضاً على مفارقة أخرى مهمة، هي فهم الشطر الأعظم من مثقفينا للتنوير على أنه ماهية ثابتة ومغلقة وحاملة لكل معرفة صحيحة، وهذا عكس ما تصوره مفكرو النهضة الغربيون. فالتنوير بالنسبة إليهم مبدأ يحتكم الناس وفقه إلى العقل والحجة والبرهان، أي منهج للوصول إلى المعرفة الصحيحة والمقبولة التي يمكن مراجعتها والتحقق منها وحتى نقلها إذا ظهرت عناصر جديدة. فيما اعتبر مثقفونا، التنوير، معرفة جاهزة ومستودع حقائق يقينية لا تقبل النقاش، وهم بذلك يتطابقون في فهم الأمر مع أصحاب المعرفة الدينية الذين يدعون مناهضتهم، ويمارسون أسلوب الوصاية الدينية ذاتها على الضمير، لكن كوصاية على العقل. وفي هذا السياق، انفصلت النخب عن الشعوب وتقاربت أكثر مع النخب الحاكمة، وشككت في فكرة إطلاق الديموقراطية وسط شعوب متخلّفة تعيش في الماضي، وربطت تحقيقها بتغيير مسبق لثقافة الشعب، ورأت في الدعوة إلى الديموقراطية خطراً على العلمانية وخدمة للإسلاميين. هكذا، هجر المثقفون، السياسة العملية، وحصل ما يشبه تبادل الأدوار، وانتقلت الحركة الدينية من الدعوة والهداية إلى العمل السياسي المباشر وتبنت النزعة البراغماتية في مواجهة الأنظمة، بينما تقمصت النخب المثقفة والعلمانية، القومية واليسارية، دور الدعاة والمبشرين والواعظين بدِين العقل الجديد، بعيداً من هموم الناس الحياتية ومعاناتهم اليومية المصيرية، وأصبح الناس ينظرون إليهم بوصفهم مجموعة من الثرثارين الذين يفتقدون حسّ المسؤولية.
وبالنتيجة، انقسمت النخب العربية، ومعها المجتمعات، الى شطرين. الأول، لجأ الى الإسلام كملاذ روحي وقارب نجاة لا يجد سبيلاً للخلاص إلا من خلال العودة الى الدين وحقائقه اليقينية المطلقة. وتشبث الشطر الآخر بخطاب علماني يتهم عموم الناس بالجهل والتخلف، ويؤكد أن فشل التحديث ناجم عن غياب العقل وسيطرة الخطاب الديني على المجتمع. وعلاوة على وصول كلا الموقفين إلى طريق مسدود، فإن التضاد العنيف بينهما لم يسمح بنشوء نقاش وحوار موضوعي وجدّي لمواجهة الأزمة التاريخية والبحث عن سبل حلها. وبدلاً من ذلك، دخلت المجتمعات في مناخ حرب أهلية استثمرته السلطات للحفاظ على تفوقها وتحييد الأطراف لبعضها البعض وإخضاع الجميع في النهاية، وقد كان لمناخ الحرب الأهلية ذاك الدور الأكبر في إفشال ثورات الربيع العربي، من وجهة نظر غليون.
إن كتاب “سؤال المصير”، الذي يكتنف عدداً كبيراً جداً من الأطروحات والمسائل المُلحّة، لا يمكن تلخيصه في مقال صحافي، ولا بديل من قراءته بالكامل. لكن يمكن استخلاص نتيجة نهائية منه، في ما يخص المثقفين والنخب. فبرهان غليون يحملهم مسؤولية جانب كبير من واقعة خروج العرب من التاريخ، بسبب خروج المثقفين من المجتمع، أو الخروج على المجتمع، ويدعوهم للعودة إلى مكانهم الصحيح وهو العمل مع الناس وبينهم “والتفاعل معهم والتعبير عن تطلعاتهم والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم وحرياتهم بدل تكبيلهم بالصفات السلبية والاتهامات المجانية”. ويرى ضرورة “توطين ثقافة العقل والحرية والألفة والتضامن في المجتمعات (…) ففي علاقة النخب بشعوبها، سلباً أو إيجاباً، تكمن أهم مسائل التقدم والتنمية الإنسانية والحضارية”، ويعتقد بأن “هذا هو المفتاح لأي تغيير”.
المصدر: المدن