محمد تركي الربيعو
شكل عام 1860 نقطة تحول كبيرة في حياة المشرق العربي، إذ شهد هذا العام ما عرف بالمذابح والحروب الأهلية التي عاشها جبل لبنان بين الدروز والموارنة، ولاحقا في دمشق عندما قامت مجموعات كبيرة من أهالي المدينة المسلمين بشن هجوم على محال وبيوت المسيحيين مما أسفر عن مقتل الآلاف يومها.
وكان المؤرخ الراحل الشهير (من أصول لبنانية) ألبرت حوراني قد اعتبر -خلال تدريسه لطلابه في جامعة أكسفورد التي بقي يدرس فيها حتى تقاعده- أن عام المذبحة هو الحدث الذي أسس للشرق الأوسط الحديث. ولعل اختيار حوراني لهذا التاريخ بدلا من تواريخ أخرى مثل تاريخ الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798، أو صعود محمد علي باشا عام 1805، أو فترة التنظيمات العثماني 1839 قد يعود للدور المركزي الذي لعبته أحداث 1860 في موطن أجداده في لبنان، كونه مثل البداية لما عرف بمتصرفية جبل لبنان وتقاسم السلطة على أساس طائفي بين الدروز والمسيحيين، وهو تقاسم بقي يحكم حياة اللبنانيين حتى أيامنا هذه.
بعد رحيل حوراني 1993 ورث عدد كبير من المؤرخين دورة التاريخ التي وضعها حوراني، مثل المؤرخ السوري زهير غزال الذي وجد أن مذبحة دمشق بدت بمثابة البداية لتراجع دور القوى المحلية وتشكل جذور المناخ الاستبدادي في سوريا المعاصرة.
ويُعتبر المؤرخ البريطاني يوجين روغان واحدا أيضا ممن ورثوا رؤية حوراني في أكسفورد، مع ذلك فقد لاحظ روغان أن نتائج ما حدث في دمشق لم يكن شبيها بما حدث في جبل لبنان على صعيد التقسيمات الطائفية، وإنما كان الحدث بمثابة تحول في تاريخ المدينة الحضري والاجتماعي. وربما هذا الشغف بلحظة 1860 قاده في بدايات مشواره التأريخي 1988 إلى مراسلات نائب القنصل الأميركي في دمشق ميخائيل مشاقة المجهولة، وهي مراسلات كتبت في الفترة بين 1859 – 1870.
من هو ميخائيل مشاقة؟
كان مشاقة 1800 – 1888 قد ولد في عائلة لبنانية، وعمل في مهن عديدة، قبل أن يستقر به الحال لاحقا في مهنة الطب بدمشق. عرف باهتماماته المتعددة في التاريخ والرياضيات والموسيقى، وترك لنا في هذا السياق كتابه الشهير “الرسالة الشهابية في الصناعة الموسيقية” – 1866، إلا أن المراسلات التي عثر عليه روغان في إحدى المكتبات الأمريكية -وهي مدونة باللغة العربية- تكشف لنا عن جانب آخر غالبا ما أهمل في حياة مشاقة.
إذ يُلاحَظ -مثلا في التعريف الذي خصصته ويكيبيديا لمشاقة- عدم وجود أي إشارة إلى كونه عمل في السياسة والقنصلية الأمريكية بدمشق، بينما تكشف لنا الأوراق الجديدة أنه عين نائبا للقنصل عام 1859، وظل لسنوات يرسل تقارير عن أحوال المدينة، وأهمها ربما ما جرى في مذبحة 1860. اذ تمكن مشاقة وبعد عدة أيام من المذبحة، من كتابة وإرسال تقارير حول ما جرى، وهو ما يكسب مراسلاته أهمية خاصة، كونها لم تكتب بعد الحادثة بسنوات، وإنما بأيام قليلة، مما يوفر لنا شهادة حية وجديدة حول ما جرى، كما أن ما ميز هذه المراسلات هو أنها بقيت ترسم صورة عن السياسات الحضرية والقانونية التي سنها العثمانيون في المدينة بعد المذبحة ولمدة عشر سنوات.
بين 1860 وأيلول/سبتمبر 2001
بعد اكتشاف روغان بسنوات لمراسلات مشاقة قرر السفر إلى دمشق لإعداد كتاب حول المذبحة، لكن الحظوظ أيضا لم تحالفه في هذه المهمة. فأثناء تجوله في أحد شوارع حي باب توما -والذي جرت به المذبحة- إذا بالأخبار تتحدث عن تفجير طائرات في أبراج نيويورك. بدا عام 2001 نقطة تحول شبيهة بتحول عام 1860 على صعيد الشرق الأوسط، وحتى على صعيد مؤلفات روغان. إذ اعتقد في تلك اللحظة أنه من المهم تحدي الافتراضات الكامنة وراء الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب، من خلال كتابة تاريخ العالم العربي للقارىء العام.
ولذلك قرر تأجيل الكتابة عن دمشق 1860 والانصراف لإعداد كتابه الشهير عن العرب. بعد ذلك أكمل روغان كتاباً آخرَ عن العثمانيين في فترة الحرب العالمية الأولى، وربما ما ميز كتابه هذا هو أنه جاء بيوميات وأوراق جديدة لجنود عثمانيين كتبوها خلال الحرب.
“في عام 1870 عكف مشاقة على كتابة مذكراته، تحدث فيها عن حياته العائلية، وعالج في الجزء الخامس والأخير ما حدث في دمشق والجهود اللاحقة التي بذلها العثمانيون لإعادة بناء المدينة ودمج المسيحيين مرة ثانية. لكن ما يلفت نظر روغان أن مشاقة في تقاريره القنصلية بدا غاضبا من المسؤولين العثمانيين، بينما نراه في مذكراته يدين الضحايا المسيحيين بدلا من الموظفين المحليين العثمانيين أو مسلمي المدينة، إذ كان عليهم كما يعتقد أن يظهروا احتراماً أكبر للمسلمين وللسلطة العثمانية. كما نراه يثني على موقف العثمانيين لما جلبوهم من استقرار. يعتقد روغان أن رؤية مشاقة الأولى الراضية عن سياسات العثمانيين، لا تعكس أي اقتراب، بقدر ما تمثل مناخ مرحلة ما بعد المذبحة وسياسات فؤاد باشا، والتي خلقت قناعات جديدة لدى أبناء المدينة قائمة على التعايش”.
مذابح سوريا ما بعد 2011
كان روغان قد نشره كتابه عن العثمانيين في عام 2015 في مئوية الحرب العالمية الأولى، والتي قتل فيها جده في معركة جناق قلعة قبل وصوله لشواطىء إسطنبول. وفي ذات العام كانت سوريا تعيش في دوامة أتون حرب واسعة. وربما هذا ما جعله يقرر العودة لأوراق مشاقة، والكشف عنها في كتابه الأخير ( أحداث دمشق: مذبحة 1860 ونهاية العالم العثماني القديم).
يعتقد روجين أنه مع بدايات القرن التاسع عشر ظهرت الحركات القومية الانفصالية وانخرط المسيحيون وجيرانهم المسلمون بدءا من اليونان في عام 1821 في مذابح متبادلة، وأصبحت الإبادة هي الحل الناجع للعثمانيين في مرات عديدة. وبالانتقال إلى دمشق الثلاثينيات تبدو مدينة محافظة رافضة لدخول الغرباء. وهو ما نراه من خلال امتعاضهم من قرارات إبراهيم باشا 1832 – 1840 والتي سمحت للمسيحيين بالحصول على بعض الحقوق مثل ركوب الخيل، وإدخال القناصل الأوروبيين.
استمر العثمانيون لاحقاً في إعطاء الامتيازات للقنصليات والمحسوبين عليهم من مسيحيي المدينة، مما فاقم من غضب النخب المحلية المسلمة، والتي وجدت أن الحكومة المركزية تعمل لغير صالحهم، وفاقم تدفق الأقمشة القطنية الأوروبية الرخيصة -إلى أسواق دمشق- من غضب شرائح دمشقية واسعة ممن كانت تعمل في مهنة النسج (النويلاتية). مع ذلك لم يكن هناك ما يوحي بأن مذبحة قادمة في أفق المدينة. وربما جاء العامل الأهم في ما عُرِفَ بمذابح الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، والتي يبدو أن صداها وصل لدمشق في عام 1860. فبعد سيطرة الدروز على مدينة زحلة في ذات العام احتفل الدمشقيون في الأسواق بما اعتبروه نصرا على المسيحيين وحلفائهم الأوروبيين.
أطفال مسلمون يكنسون باب توما
في ظل هذه التوتر تذكر بعض الأخبار قيام بعض الشبان والأطفال برسم الصلبان في أحياء المسيحيين وإجبار البعض على الدوس عليها. وعلى إثر هذه الحادثة قامت السلطات المحلية العثمانية باعتقال الأطفال والشبان وأجبرتهم وهم مقيدون من أرجلهم بحمل مكانس والسير بها نحو الأحياء المسيحية لكنسها. وهنا ثارت المدينة اندفع المسلمون نحو الأحياء المسيحية داخل المدينة القديمة لتقع واحدة من أكبر المجازر التي عرفتها مدينة دمشق في القرن التاسع عشر.
9 تموز/يوليو يوم المذبحة
في 9 تموز/ يوليو حوصر منزل مشاقة وباقي المسيحيين في حيي باب توما وباب شرقي، واقتحم مقاتلون دروز ومسلمون منازل المسيحيين. أخذت زوجة مشاقة تقبل أرجل المهاجمين كي لا يقتلوهم. لم تنفع كل هذه الدعوات وقام رجل بضرب ابنة مشاقة بفأس فأصابها، كما أصيب زوجها بجرح خطير في رأسه. يومها ذُبح الرهبان والكهنة ولم تنجُ كنيسة أو دير داخل أسوار المدينة.
في هذه الأثناء، اكتفى الجنود العثمانيون بالتفرج، وشارك بعضهم أيضا في عمليات القتل. بينما تدخل الأمير عبد القادر الجزائري برفقة 1100 مقاتل جزائري دُفِعَت رواتبهم من قبل القنصلية الفرنسية.
ويبدو الدمشقيون في رواية روغان غير مكترثين بمكانة الجزائري الرمزية، إذ طالبوه بتسليم المسيحيين وعدم التدخل بشؤون المدينة. وقد أسفرت ثمانية أيام من العنف عن مقتل ما يقارب الـ5000 آلاف مسيحي، نصفهم من دمشق، والباقون لاجئون من بلدات وقرى لبنان.
فؤاد باشا: تحطيم دمشق القديمة
وشكل ما جرى “لحظة إبادة جماعية” وفق تعبير روغان، ولذلك جرى إرسال وزير الخارجية فؤاد باشا كممثل خاص للسلطان للتحقيق في ما جرى، خاصة وأن اسطنبول دعت إلى ضرورة الإسراع في معاقبة المذنبيين خوفا من من احتلال الأوروبيين لسوريا.
وعند وصول قوات فؤاد باشا لدمشق قامت قواته باعتقال 1000 رجل تقريباً -من بينهم وجهاء محليون- وأمر بإعدام أكثر من خمسين سجينا وترك جثثهم معلقة طوال اليوم في شوارع المدينة ، كما صدر قرار لاحقاً بقتل 110 جندي محلي في ساحة المدينة.
بدا فؤاد مصرا على تطبيق سياسات أكثر قسوة وإعادة الحياة للمدينة، لكن الوضع المالي لدمشق لم يكن يسمح بتطبيق إجراءات إعادة الإعمار، وظلت دمشق في هذه الفترة في مهب الريح، تعاني من ازدياد انتشار البغايا في شوارعها. ولذلك عمل فؤاد على الاتصال بمدحت باشا حاكم مقاطعة نيش في صربيا الحديثة والتي عانت من توترات طائفية مشابهة. وكانت النتيجة تحويل دمشق إلى مركز لولاية سوريا، مما سمح لها بتحصيل إيرادات وضرائب كبيرة من المناطق الأخرى.
وبذلك تمكن الموظفون العثمانيون من تنشيط المجتمع والاقتصاد وبناء أسواق جديدة وإنشاء مدارس. وقد كان لهذا التطور السريع تأثير كبير على العلاقات الاجتماعية في المدينة، ففي داخل المباني الحكومية الجديدة، أخذ مسيحيون ومسلمون ويهود يتلاقون كل صباح في المكاتب الحكومية في ساحة المرجة أثناء ذهابهم إلى العمل في المحاكم. وبحلول عقدين ركز الدمشقيون أعينهم بقوة على الحاضر والمستقبل بدلاً من الماضي وكان لديهم الأسباب للأمل في أن يتمتع أطفالهم بمستقبل أفضل.
في عام 1870 عكف مشاقة على كتابة مذكراته، تحدث فيها عن حياته العائلية، وعالج في الجزء الخامس والأخير ما حدث في دمشق والجهود اللاحقة التي بذلها العثمانيون لإعادة بناء المدينة ودمج المسيحيين مرة ثانية. لكن ما يلفت نظر روغان أن مشاقة في تقاريره القنصلية بدا غاضبا من المسؤولين العثمانيين، بينما نراه في مذكراته يدين الضحايا المسيحيين بدلا من الموظفين المحليين العثمانيين أو مسلمي المدينة، إذ كان عليهم كما يعتقد أن يظهروا احتراماً أكبر للمسلمين وللسلطة العثمانية. كما نراه يثني على موقف العثمانيين لما جلبوهم من استقرار.
يعتقد روغان أن رؤية مشاقة الأولى الراضية عن سياسات العثمانيين، لا تعكس أي اقتراب، بقدر ما تمثل مناخ مرحلة ما بعد المذبحة وسياسات فؤاد باشا، والتي خلقت قناعات جديدة لدى أبناء المدينة قائمة على التعايش.
تبقى هنا ملاحظة، وهي: أن كان روغان قد أعد كتابه بناء على الأوراق الجديدة، لكنه يذكر في المقدمة أن ما يحدث في دمشق اليوم لم يغب عن باله وهو يكتب عن الماضي، ولذلك يبدو أحيانا وكأنه يحاول القول إن ما جرى في تلك الفترة على صعيد معاقبة الجناة ودفع المدينة لإعادة الإعمار، قد ساهما في تجاوز المحنة الطائفية، فهل نشهد شيئا شبيها في مستقبل دمشق اليوم؟
المصدر: قنطرة