التدخل الإيراني في القضية الفلسطينية على ضوء تدخله في سوريا

فادي قطيني

على مدى العقد الماضي، لعبت إيران دوراً رئيسياً في الساحة السورية، مستندة إلى استراتيجية متعددة الجوانب تهدف جميعها إلى تعزيز هيمنتها ونفوذها في البلاد. وبعد سوريا، العراق، لبنان، واليمن، ها هي تتجه نحو فلسطين. فكيف يمكن أن تتطور استراتيجيتها هناك بناءً على تجاربها السابقة، لا سيما في سوريا؟

“جئنا للمساعدة!”

هذا الشعار هو المدخل الثابت لإيران في كل ساحة تدخلت فيها، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. تكررت هذه الحجة في سوريا، العراق، اليمن ولبنان، لكن الواقع يكشف أن تدخل إيران في هذه الدول لم يجلب سوى المزيد من الكوارث. على سبيل المثال، كانت الأوضاع في سوريا قبل التدخل الإيراني أكثر استقراراً، من الناحية الاجتماعية، الاقتصادية، والخدمية. حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية الكبرى ضد “داعش” في عام 2019، استمرت الأوضاع في التدهور. والسبب الأساسي هو أن التدخل الإيراني لا يقوم على الاستقرار أو التنمية، بل يسعى لتحقيق أهداف خاصة تتعلق بالهيمنة وبسط النفوذ.

استراتيجية العزل وتقسيم القوى

في سوريا، اعتمدت إيران على ميليشيات طائفية مثل “حزب الله” و”فاطميون” لدعم النظام، وارتكبت هذه الميليشيات مجازر طائفية كان هدفها تفتيت المجتمع السوري على أسس طائفية وعرقية، مما أدى إلى خلق خطوط جديدة للتوتر بين المكونات المحلية. هذا التفتيت ساعد إيران في فرض سيطرتها بسهولة.

نفس السيناريو يتكرر في فلسطين، حيث عزلت إيران القوى الفلسطينية عن محيطها الإقليمي والدولي. ونتيجة لذلك، فقدت هذه القوى الدعم الذي كانت تتلقاه لعقود من العالم العربي والإسلامي. وبهذا أصبحت القوى الفلسطينية أكثر اعتمادًا على الدعم الإيراني، ما يجعلها عرضة للشروط والأجندات التي تسعى إيران إلى فرضها، وهو ما يفرغ القضية الفلسطينية من محتواها الإنساني والحقوقي، ويحيلها إلى مجرد ورقة ضغط في الصراعات الإقليمية.

وإذا أبدت أي قوى موجودة على الأرض رفضاً أو مقاومة لاستخدامها بهذه الصيغة، فإن الحل متوفر ومجرب في الدول الأخرى، وهو دعم وتقوية العناصر الأكثر ولاء لإيران لضرب أي متردد أو غير متعاون، وبذلك يحل النزاع داخل المعسكر الفلسطيني ويزداد انهياره وضعفه.

الهيمنة الثقافية والدينية: تغيير الولاءات والوعي

بعد السيطرة الميدانية، تسعى إيران إلى إحداث تغييرات ثقافية ودينية طويلة الأمد، كما شهدنا في لبنان، العراق، واليمن، وتحديدًا في سوريا. تستغل إيران المراكز الثقافية والدينية لنشر عقيدة “ولاية الفقيه” بهدف تشكيل هوية جديدة ترتكز على الولاء للنظام الإيراني.

في فلسطين، بدأت بوادر هذا التوجه بالظهور، حيث بات قادة الفصائل الفلسطينية يتبنون خطاباً يروج للنظام الإيراني، ويصفون رموزه مثل قاسم سليماني بـ”شهيد القدس”. هذه الخطوة تشكل تمهيدًا لتغيير فكري وإيديولوجي طويل الأمد، حيث يتم تحويل الولاء إلى النموذج الإيراني بالطريقة التدريجية طويلة الأمد الذي تبرع فيه منظومة الولي الفقيه. فبعد الإعجاب بموقفها الدعائي من فلسطين، يأتي الإعجاب بالنموذج السياسي والعقائدي، وبعد ذلك يبدأ بتطبيق مبادئ ذلك النموذج ومستتبعاته السياسية، فيصبح أعداء إيران هم أعداء الفلسطينيين والعكس صحيح، ومع تصاعد التغيير يصل الأمر إلى “غسل دماغ” كامل للمجتمع الفلسطيني بإرثه ونضاله وتاريخه، ويتحول إلى مجتمع مشابه ومطابق إلى حد بعيد للنموذج الذي فرضته طهران في البلدان الأخرى المشار إليها.

تفكيك المجتمع: المخدرات والدعارة كأدوات لتحطيم القيم

إلى جانب تقسيم المجتمع طائفيًا في سوريا، لجأت إيران إلى استخدام أدوات مدمرة مثل المخدرات والدعارة. انتشرت المخدرات بشكل كبير في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية، مما أدى إلى تفكك الأسر وتدمير العلاقات الاجتماعية. هذا ليس صدفة، بل جزء من استراتيجية لتفتيت المجتمع وجعله هشًا وغير قادر على المقاومة.

في فلسطين، لم تبدأ هذه المرحلة بعد، لكنها قد تحدث في المستقبل القريب، حيث يمكن لإيران أن تعرض إنتاج المخدرات، مثل الكبتاغون، على القوى المرتبطة بها لتمويل أنشطتها، خاصة من خلال تهريبها إلى دول مجاورة مثل مصر، الأردن والخليج العربي. وبمجرد انتشار المخدرات، حتى لو كان على سبيل التصنيع والاتجار، يتبع ذلك انهيار أخلاقي واجتماعي يؤدي إلى دمار المجتمع، مما يسهل سيطرة إيران عليه.

الاستيلاء على الأرض

بجانب تفكيك المجتمع عبر المخدرات والدعارة، تعمل إيران بشكل دائم على الاستيلاء على الأرض، وتبني حيزًا خاصًا بها تمارس من خلاله أنشطتها المختلفة بحرية. هذه الأرض أو الأماكن يمكن أن تكون تحت عنوان بريء مثل مستشارية ثقافية أو جمعية إنسانية أو حتى بيوت سكنية لأشخاص عاديين. تبدو هذه الاستراتيجية غير خطرة في مكان مثل غزة، حيث لا تستطيع إيران أن تصل إليه وتنشط فيه، لكن الوقائع في سوريا المجاورة، حيث التركيبة الاجتماعية شبيهة جدًا بفلسطين، أثبتت أن ذلك غير صحيح. فالمراكز التي استحوذت عليها إيران قبل عشرات السنوات توسعت بشكل هائل ما أن سمحت الظروف بذلك، وامتد تأثيرها إلى المجالات الثقافية، الخدمية، والتربوية، ومارست تجارة المخدرات والدعارة المنظمة، وصولًا إلى تحول بعضها إلى مقرات أمنية سرية أو مراكز عسكرية صريحة. ليس من الصعب تخيل أن تنشئ إيران في المرحلة القادمة مؤسسات تنسخ عن مؤسساتها ذات الخبرة الطويلة وتبدأ العمل بصبر وعلى مدى زمني طويل، لكن بعد أن تضع قدمها على الأرض فعليًا وماديًا وليس فقط بشكل رمزي أو سياسي. ستكون تلك أعلى وأخطر مراحل الهيمنة والسيطرة، وفق ما شاهدناه في التجارب السابقة.

الهيمنة وليس التحرير

تجارب التدخل الإيراني في سوريا، اليمن، العراق ولبنان تقدم لنا نموذجًا لما قد يحدث في فلسطين. هدف إيران ليس تحرير فلسطين، بل الهيمنة على القضية الفلسطينية التي تملك رصيدًا شعبيًا كبيرًا جدًا. وتسعى إلى إشعال الانقسامات الداخلية، تغيير الولاءات الثقافية والدينية، وتدمير المجتمع من الداخل. وإذا لم يتم التصدي لهذا التدخل، فسوف يجد الفلسطينيون أنفسهم محاصرين ومعزولين، وتحت السيطرة المطلقة لنظام خامنئي، الذي يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة على حساب مصالح الشعب الفلسطيني.

قد يعجبك ايضا