جسر: متابعات:
ما يُقارب ربع قرن قد مضى على مقتل باسل الأسد الذي كان مرشحاً لوراثة أبيه. كالمعتاد لم يعرف السوريون حينها تفاصيل ما جرى بشكل موثّق أو رسمي، فتولت الأقاويل مهمة سد النقص، ولا يندر في سوريا أن يكون مقرّبون من السلطة أو مشاركون فيها هم مصدر الروايات الشفوية، إما عن قصد أو بسبب تحدثهم في حلقاتهم الخاصة الصغيرة التي ما تلبث أن تتوسع. في أحد الأمثلة على ذلك، كان واحد من أهم الأسئلة التي طُرحت آنذاك: مَن الذي تجرأ على إخبار حافظ الأسد بمقتل ابنه وخليفته المنتظر؟
استقرت الأقاويل حينها على أن خال القتيل محمد مخلوف هو من تولى إبلاغ حافظ الأسد بالخبر، وبصرف النظر عن دقتها فإن طرح اسم الرجل يحمل دلالة واضحة على مكانته ضمن الأسرة الحاكمة، أو بالأحرى ضمن الصندوق الأسود لها. اسم محمد مخلوف كان قد بدأ بالبروز والصعود منذ منتصف الثمانينات، تحديداً منذ إقصاء رفعت الأسد وظهور مشروع توريث باسل. ولأن الهاجس الأمني هو الأقوى لدى الأسرة الحاكمة، يمكن الاستدلال بموقع الرجل كمشرف على تقوية “الحرس الجمهوري” كقوة بديلة عن سرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت وتم حلها، وبحيث يكون الحرس الجمهوري تحت الإشراف المباشر لأسرة الأسد الأضيق “حافظ وأبنائه”.
بسبب مرض حافظ، كان محمد مخلوف شريكاً كاملاً في مشروع توريث باسل، ويمكن الاستدلال أيضاً بهذه الشراكة على الدور الصاعد لشقيقته أنيسة التي لم يكن اسمها قيد التداول العام قبل مرض زوجها وصدامه مع شقيقه رفعت. ولعل أول حدث تداول فيه السوريون تأثير أنيسة هو زواج ابنتها بشرى من آصف شوكت، فحينها سرت الأقاويل عن رفض باسل وماهر ذلك الزواج، وعن أن الأم كانت الداعمة له مع التنويه بدلال خاص تتمتع به لدى الأب الابنةُ الوحيدة بين الذكور بشرى. بعد اندلاع الثورة ستتحدث تقارير غربية عن سطوة الأم، وعن مشاركتها في اتخاذ القرار الأمني ضمن الحلقة الضيقة التي لا يُستبعد أن يكون أخوها محمد واحداً منها.
في الجزء الأخير من تلك الفترة، كان بشار الأسد قد أنهى دراسته في كلية الطب، وكأنما ذلك من تقاليد الأسرة كان قد تطوع في الجيش بصفته طبيباً، وراح يكمل دراسته العليا كطبيب في مشفى تشرين العسكري. لم يكن اسم بشار تحت الأضواء، فباسل هو الوريث المنتظر لحافظ، وسينضم إليه لاحقاً شقيقه ماهر كضابط يذكّر السوريين بعمه رفعت حتى قبل أن يذيع صيت الفرقة الرابعة التي يسيطر عليها وتذكّرهم بسرايا الدفاع التي كان يقودها العم.
في أثناء دراسته وعمله في مشفى تشرين العسكري، كان بشار يقدّم صورة مغايرة لصورة شقيقيه، فهو نظرياً وعملياً خارج الترتيبات المستقبلية للخلافة. وفق ما ينقل عنه زملاؤه في تلك الأيام، كان يتأفف من المرافقة الأمنية المفروضة عليه، بل كان يكثر البقاء والمبيت في المشفى وكأنه يفضّل الأخير على نعيم القصر الرئاسي. تلك الصورة، أي صورة المتواضع الزاهد، ستتولى أجهزة السلطة ترويجها على نحو مباشر أو غير مباشر لتعويمه كخليفة جديد لأبيه بعد مقتل باسل.
لو قُدّر لباسل العيش لربما بقيت صورة بشار كما كانت، لكن تعطشه للسلطة الذي ظهر لاحقاً، والبطش والوحشية اللذين واجه بهما الثورة وإصراره في أكثر من ظهور إعلامي على تحمل مسؤوليتهما شخصياً، كل ذلك يؤشر إلى صورة مختلفة عن صورة الزاهد أو المتواضع. بعبارة أخرى، أغلب الظن أن الصورة السابقة هي قسرية، بمعنى أنها ابنة واقعه السابق حيث لم يكن مؤهلاً ليصبح حافظ الأسد أو رفعت الأسد. وإذا تحرينا الواقع السابق سنجده وسط قوى تمارس عليه الضغط، فلا هو الابن الذكر البكر كباسل ليكون مرشحاً للخلافة، ولا هو مثل ماهر الطامح، ولا هو في منزلة بشرى الابنة الوحيدة. على ذلك تصح قراءة الذين كانوا يرون في تهربه من المرافقة الأمنية تهرباً من سطوة باسل الذي كان يعين أولئك المرافقين، ويكون ابتعاده عن جو الأسرة نأياً عن مكان يمثّل فيه أضعف الحلقات أو الأركان.
لقد أتى مقتل باسل بالنسبة لبشار كأنه مقتل الأب نفسه بسبب تشابه رمزية الاثنين، وبسبب انزياح ثقل السلطة الجاثم فوقه ليصبح مرشحاً للاستحواذ عليها. هنا أيضاً تبرز شخصية الخال محمد مخلوف، فوقت مقتل باسل كانت صحة حافظ الأسد تزداد تدهوراً، ولم يكن يستطيع الإشراف بنفسه على تأهيل وريث لم يتلقّ أي إعداد مبكر على غرار أخيه. إذاً تولى الخال مسؤولية إعداد الخليفة الجديد، رغم أنه بقي رجل الظل، في حين راح يلمع نجم ابنه رامي كممثل لفساد السلطة، وكخازن ومدير لجزء من ثروة بيت الأسد، وفي فترة تأهيل بشار راح يُنظر إليه كواجهة اقتصادية له شخصياً بينما يُنظر إلى محمد حمشو كواجهة اقتصادية لشقيقه ماهر.
لم يكن من باب الكذب المحض ما كان يقوله بشارفي بداية تسلمه السلطة لوفود يتم استدعاؤها من النقابات التابعة للسلطة أصلاً، وفحواه طي المرحلة السابقة، أي مرحلة أبيه. في العديد من المناسبات كان يفاجئ تلك الوفود بسقف أعلى مما يتوقعون في نقده مرحلة أبيه، بل استخدم أحياناً تعبير “العهد البائد” في الدلالة عليها أو “الحرس القديم” في الإشارة إلى بقاياها. من المرجح أنه في قرارة نفسه كان يتوق إلى “التحرر” من ظل أبيه، وبخلاف الفهم الشائع لم يكن ذلك التوق من أجل تغيير في طبيعة السلطة، وإنما من أجل الاستحواذ عليها خارج الذكرى المهيمنة لكاريزما الأب.
بتعبير نفسيٍّ، لم يكن بشار قادراً على قتل أبيه بأن يكون شخصاً مختلفاً عنه، ما تطلب منه أن يحاول ذلك بإثبات تفوقه عليه في المضمار ذاته، وهذا ما اتضح تماماً منذ بدء الثورة. لا ننسى هنا أننا إزاء جيلين من السلطة، جيلُ حافظ الذي قاتل من أجل الاستحواذ عليها، وجيل بشار الذي ورثها على طبق من ذهب، بكل ما لهذا الفارق من تبعات فادحة. من المنظور نفسه، كان محمد مخلوف بمثابة أب بديل خلال سنوات تأهيل بشار للسلطة، وهي مكانة لا تشفع له بقدر ما تضعه محل نقمة لمن يتوق إلى الانفلات من كل سلطة سابقة عليه، وقد يزيد من النقمة صندوقُ الأسرار التي يعرفها الرجل عن تلك السنوات.
بعد وفاة والدته، بما لها من تأثير صار يُحكى فيه علناً، بات التخلص من شقيقها الأب محمد مخلوف سهلاً. الأخبار الواردة عن تجريد أبناء مخلوف من امتيازاتهم، وفي مقدمهم ابنه رامي الذي كان دائماً واجهة لأبيه رجل الظل فوق دوره كواجهة اقتصادية لبشار، هذه الأخبار يصعب ردّها إلى أسباب من نوع طلب بشار مبلغاً من المال وامتناع رامي عن دفعه. ما حصل هو بمثابة طي للصفحة الأخيرة من إرث الأب حافظ، وفقط على سبيل المفارقة المرة قد نقول أن همّ القضاء على الأسدية التي أسسها الأب مشترك بين بشار والسوريين، إلا أن طريقته في ذلك تجمع بين التفوق عليها في الوحشية والرثاثة معاً.
المدن 31 آب/أغسطس 2019