جسر: رأي:
رغمَ مرورِ أكثرَ من شهرٍ على الاتفاق الأمريكيّ-التركيّ، الذي تم توقيعُه في انقره بتاريخ 7 آب الماضي، إلا أنّ طبيعة المنطقة المزمع إقامتُها مازالت مبهمة.
ورغم تردادِ عبارة “المنطقة الآمنة” كثيراً، ومن قبل كل الأطراف، إلا أنه ثمّة شكوكٌ كثيرة، حول توافق هذا المصطلح مع ما يتم تطبيقُه على أرض الواقع.
فغيابُ الغطاء الدولي للاتفاق، واستمرار تواجد مقاتلي PKK/YPG في المنطقة – بزيّ آخر – إضافةً إلى استمرار ذات المجموعة التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطيPYD في تسنّم مهام الإدارة، يوحي بأن مايتم تنفيذه ليس منطقة آمنة، بل آلية أمنيّة فقط.
ربما يكون مصطلح الآليّة الأمنيّة جديداً في هذا المضمار، ولم نسمعْ بسابقةٍ تشير إلى تطبيق هكذا نموذج على أرض الواقع، إلا أن المقصدَ المرادُ منه يبدو واضحاً، ويتلخص في تبديد الهواجس الأمنيّة لطرفيّ النزاع على الحدود، وهو يقترب إلى حدٍ كبير من مصطلح المنطقة العازلة المعروفِ دولياً، ويختلف كثيراً عن مصطلح المنطقة الأمنيّة الذي تردّد كثيراً، والذي يعني اتخّاذ إجراءاتٍ أمنيّةٍ ميدانيّة، لملاحقة المطلوبين على قوائم الإرهاب، وتحييدهم ماديّاً ومعنويّاً.
تؤكد ما قلناه البياناتُ الصادرة عن القيادة الأمريكيّة في أوربّا (يوكوم)، التي يشغل منصب نائبُ القائد العام فيها الجنرال ستيفن تويتي، رئيس الوفدَ الأمريكيّ، الذي ناقش الاتراكَ واتّفقَ معهم، على مقر مركز العمليات المشتركة في شانلي أورفة، في 12 آب الماضي.
هذه البيانات لاتشير من قريب ولا من بعيد إلى المنطقة الآمنة ولا الأمنيّة، بل تؤكد في خمسة منها صدرت حتى الآن، على عبارة “آلية أمنيّة مشتركة”، تهدف إلى “معالجة المخاوف الأمنيّة التركيّة، والحفاظ على الأمن في شمال شرق سورية، لمنع ظهور داعش، والسّماح للتحالف وشركائه بالتركيز على تحقيق الهزيمة الدائمة للتنظيم المذكور”.
ويبدو أن القيادة المذكورة ترى في الدورية البرّية المشتركة، التي نفذّتها القوات الامريكية والتركية صباح 8 سبتمبر الجاري، إنجازاً كبيراً، وبرهاناً ساطعاً، على التزام القوات الأمريكية بتبديد المخاوف التركية، وأن تدميرَ التحصينات، وخلوّ المنطقة من عناصر YPG، ولو ظاهرياً، هو أقصى ماتطمحُ إليه.
وقد يكون ذلك مضمون ماقصده الرئيس التركي من أنه “لا يمكن إنجاز المنطقة الآمنة عبر تحليق 3 – 5 مروحيات أو تسيير 5 – 10 دوريات أو نشر بضعة مئات من الجنود في المنطقة بشكل صُوَريّ” وذلك في كلمته التي ألقاها في ملاطية يوم الأحد الماضي.
أما على الجانب الآخر، ومن منظور تركي، فإن كلّ ماجرى لايتعدى حدود بناء الثقة، وتهيئة الأرضية الملائمة لبناء المنطقة المقصودة.
يسعى الأتراك إلى منطقة خالية، فعلاً لا قولاً، من عناصر الوحدات الكردية YPG، وعناصر حزب العمال الكردستاني PKK، تمهد الطريق لتسليم الإدارة المحلية لأهالي المنطقة، سواء أكانوا عرباً أم كرداً، تحت رعاية أمريكية تركية مشتركة.
في حين أن ماتمّ حتى الآن، لايؤشّر إلى أن “ممرّ السّلام” سوف يكون آمناً لعودة اللاجئين والمهجرين السوريين إلى مدنهم وقراهم، وبالتالي فإن المنطقة لن تكون في منأى عن تصعيدٍ قادم ربما يكون أكبر مما نتوقع.
تبدو الولايات المتحدة وكأنها تساق كرهاً إلى تنفيذ الاتفاق، ويبدو أن كل الخطوات التي تمت، كانت بإلحاحٍ ومبادرة تركية، بما فيها تسيير الدورية المشتركة المشار إليها آنفاً.
واقع الحال يشير إلى أن ماتم إنشاؤه حتى الآن، لا يعدو عن كونه منطقةً عازلة بين فريقين متحاربين، قامت فيها الوحدات الكردية بإبعاد سلاحها الثقيل عن الحدود، وربما يكون هذا ماقصده الرئيس التركي في إشارته إلى محاولة واشنطن وضع تركيا في ذات الكفة من حيث التعامل مع العمال الكردستاني.
قد تكون إدارة ترامب مضطرةً إلى مسايرة الأتراك في مسعاهم، وتبديد الوقت في أمور تبدو قشوراً بالمقارنة مع مايسعى إليه الأتراك، إلا أنها لن تستطيع التملص من مواجهة حقيقة الاختيار بين الحليف التاريخي والشريك المؤقت.
لن يعدم الاتراك الوسيلة، ولن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ماتقوم به الولايات المتحدة من ترسيخ إقليم كرديّ على حدودها الجنوبية، وهو مايجعل المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات.
٭ضابط سوري منشق عن شعبة اﻷمن السياسي