جسر: رأي
ساطع نور الدين
ثمة حاجة لجدال من نوع مختلف مع تركيا التي توغلت مجدداً في عمق الاراضي السورية، في منطقة الجزيرة شرق الفرات، لكي تضمن أمن حدودها الجنوبية من جهة، ولكي تعلن بدء إنفصالها النهائي عن الازمة في سوريا، وإنشغالها بأحد عوارضها التفصيلية، بما لا يفيد شراكتها مع روسيا وإيران، التي كانت وستبقى واحداً من أغرب معالم المسألة السورية.
حديث السيادة السورية التي إنتهكها الجنود الاتراك مثير للسخرية، والخوف على الوحدة الوطنية السورية يقع في باب السوريالية. أما الزعم بأن المواقف المستنكرة لذلك التوغل، مبنية فقط على إعتبارات مبدئية، أو إخلاقية، فذلك ما لا يقبله أي عقل، مهما كان ساذجاً.. ومنها مواقف العواصم العربية التي لم يسبق أن أبدت ذلك الحرص على سوريا، أو على جماعتها الكردية، وهي اليوم تعبر عن حماسة شديدة لمواجهة تركيا، بشكل لن يثير سوى إستغراب طهران، ودهشة موسكو، وضحك واشنطن.
القول أنه ليس من حق تركيا إجتياح أي أرض سورية أو عربية، حتى ولو كان الامر مؤقتاً، هو واجب اليوم مثلما كان واجباً في عشرات المرات السابقة التي خرق فيها الجنود الاتراك السيادة السورية، وفي مئات المرات التي إنتهك فيها هؤلاء الجنود السيادة العراقية وما زالوا. وهو مرادف للقول أنه ليس من حق الاكراد ان يستخدموا اراضي سوريا او العراق منصة للهجوم على الاراضي التركية، من أجل إنتزاع الاقرار بتطلعاتهم التاريخية في الحرية والسيادة والاستقلال.. عن كل من إنقرة ودمشق وبغداد وطهران على حد سواء، ومن دون أي تمييز بين عاصمة تعترف لهم بحقوق سياسية، وبين عاصمة لا تعترف بوجودهم أصلاً ولا تسمح بذكرهم على سجلاتها المدنية.
الاشتباك شرق الفرات، هو، في المقام الاول والاخير، نتاج فشل عام في إعتماد الخيارات السياسية أداة لتسوية صراع تاريخي. هو أقرب الى تصفية حسابات قديمة، أكثر من كونه تأسيساً لمعادلات جديدة في سوريا، التي تبدو الان وكأنها مسرح عبثي تدور على خشبته معركة عسكرية جديدة، لا تمسها مباشرة ولن تؤثر في تحديد مستقبلها السياسي. ولم تكن مبالغة ما قاله بعض رموز المعارضة السورية، عن أنه إشتباك بين طرفين تركيين نقلا المواجهة بينهما الى داخل الأراضي السورية، كما سبق أن فعلا في العراق..
لكن تلك المعارضة السورية ليست مجرد متفرج على ذلك الاشتباك، الذي يحسم من رصيدها الخاص لأنه يدور بين حليفين مفترضين لها. تركيا التي كانت ولا تزال تقاوم النظام في دمشق أو على الاقل تفترق عنه، والاكراد الذين كانوا طرفاً معارضاً وشريكاً دائماً في الصراع مع النظام، قبل ان ينتهزوا فرصة فراغ السلطة في الشمال السوري لكي يؤسسوا كياناً خاصاً، يكون قاعدة للتفاوض مع الجميع، من دون أدنى مراجعة للتجربة الكردية العراقية الاخيرة التي إنتهت الى إخفاق شديد.
النظام هو أكثر من متفرج بعيد على إشتباك يدور خارج “حدوده”، لكنه يصلح لأن يكون إستثماراً ناجحاً في حملة تبديد الشكوك حول شرعيته المنقوصة: أن تغرق تركيا في أمنها الداخلي، وأن يبالغ الاكراد في طلب ثمن تضحياتهم الاخيرة، يعني أن الجانبين لن يجدا بداً من العودة في وقت ما الى دمشق. وقد دقّ الاكراد أبواب العاصمة السورية أكثر من مرة طوال العامين الماضين، وخلال اليومين الماضيين، لكنهما لم يتلقيا رداً حتى الآن..من موسكو، الحريصة على مكاسبها التركية الاستثنائية، ولا من طهران المعنية بالمعابر التركية المهمة لتخفيف الحصار عنها.
أخطأت تركيا في التوغل في منطقة الجزيرة شرق الفرات، ليس لأنها أرض سورية، لا يجوز المس بها، على ما يزعم دعاة الحرص على السيادة السورية المستباحة من غالبية دول العالم، العربية منها والاجنبية، بل لأن الصراع على ذلك الجزء من الارض هو في الأصل شأن سوري خاص، كان يمكن، بل يجب أن يحسمه المعارضون السوريون بأنفسهم، حتى من دون غطاء تركي ظاهر.. ما يمكن ان يسهم في إعادة إنتاج تلك المعارضة، وربما أيضا في إعادة إحياء دور تركيا كطرف داخلي مع موسكو وطهران، لا كجهة خارجية تطل على الازمة السورية من وراء الحدود فقط، أو تدعى كضيف الى المؤتمرات والاجتماعات الخاصة بتسويتها.
المصدر: المدن