منذ أن ألغى ترامب الاتفاق النووي مع ايران، وإعادة فرض العقوبات عليها، سعت طهران إلى مواجهة عسكرية تناسبها، وهي عمليات عسكرية على المستوى المليشياتي في الشرق الأوسط، من اليمن إلى العراق على سوريا وصولاً إلى لبنان. وكانت التحركات الأخيرة في العراق، وقصف القواعد الأميركية هناك ببضعة صواريخ “مجهولة” المصدر، ومن ثم اقتحام السفارة الاميركية في بغداد، نوعاً من عملية جس النبض، وتهيئة الميدان لانطلاقة كبرى.
هدف ايران كان الوصول إلى حالة الحرب اللامتماثلة، من خلال المشاغبة والمناوشة، واستراتيجية “اضرب واختفي”، التي لا تتيح للطرف الآخرالانتصار مهما بلغت قوته، حيث يعد “عدم انتصار” الطرف الأقوى في هذا النوع من الحروب، هزيمة لها.
لقد سعت طهران من خلال بيادقها المنتشرة في كامل ميدان المواجهة، إلى حرب من نوع حرب تموز 2006، التي انتصر فيها “حزب الله” لأن إسرائيل لم تتمكن من تدمير كل قواه، واضطرت إلى عقد تفاهم معه، ما مكنه لاحقاً من التحول إلى شرطي في لبنان وسوريا، وهو ذات الدور الذي تطمح ايران لبلوغه اقليمياً، من خلال مواجهة أوسع، ومع الطرف الأقوى دولياً وهو الولايات المتحدة.
هل عطل مقتل سليماني الخطة الإيرانية؟
رغم الخبرة الواسعة، والحضور الكاريزمي، إلا إن غياب سليماني لن يؤثر كثيراً على الخطة الايرانية، فالقوى الايرانية المنتشرة في المنطقة، ورغم ارتباطها الرمزي به، إلا أنها في تصميمها الأصلي، تحوز الاستقلالية التكتيكية والعملياتية، وترتبط بالقيادة المركزية الإيرانية تمويلياً والتوجهات العامة، وفي تأدية خدمات محددة وطارئة. ويصعب تخيل أن شخصاً واحداً مثل سليماني، إضافة لمهماته السياسية والدعائية وأعباءه الأمنية الكثيرة، قادر على قيادة كل هذا الحشد من المليشيات متعددة الانظمة والتوجهات والجبهات، من اليمن إلى لبنان. وبالتالي، فإن غيابه قد لن يؤثر كثيراً على خطة المواجهة الايرانية، وهي ستسمر على الاغلب كما هو مخطط لها. وربما يخلف سليماني قادة أكثر حماساً وسعياً لإثبات الذات.
ويمكن تخيل أزمة يخلقها غياب سليماني الشخصي في ميادين آخرى؛ معركة خلافة المرشد، ورئاسة الجمهورية الإيرانية المقبلة. وربما يفتح مقتله الباب على تصارع داخلي بين أجنحة الحكم في ايران.
الضربة المركزية ستواجه بردود لا مركزية
إن هذه الضربة الموجهة إلى المركز العصبي لقوى ايران الخارجية، لن تشل تلك القوى، وبـ”ايحاء” من المرشد الأعلى ومعاونيه، ستشن كافة الاذرع الايرانية، وربما في وقت متزامن، هجمات “لا مركزية” وباساليب عسكرية هجينة، تختلط فيها الوسائل البدائية لحروب العصابات مع الامكانيات التقنية الحديثة، لتحقيق أكبر قدر من الايذاء التكتيكي للقوات الاميركية، والدول الاقليمية الحليفة لها، ولمصالح كل هؤلاء الأطراف.
وسيكون “الثأر” لمقتل سليماني، عنوان حملة واسعة النطاق، غير محددة الميدان ولا التوقيت ولا التكتيك، للضغط المتصاعد، الذي تتورط فيه مزيد من القوى الموالية لإيران، خاصة الأطراف المرتبطة بها طائفياً. وسيتم تضخيم نتائج تلك الحملة، واستثمارها اعلامياً وعقائدياً وسياسياً، إلى مدى يتجاوز كثيراً نتائجها العسكرية الفعلية.
استحضار الجهاديين “السنّة”
كان لافتاً أن نعي وزير الخارجية الإيرانية جواد ظريف، قد ركّز على إن اغتيال الجنرال سليماني هو اغتيال للقوة الأكثر فعالية التي تقاتل “داعش” و”النصرة”، وتتحمل الولايات المتحدة مسؤولية جميع عواقبه. وهذا ما يتضمن تهديداً بالجهاديين، وتلويحاً بدور لهم في المواجهة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما تحاول ايران القيام به من خلال السماح للجماعات الجهادية بإعادة ترتيب اوراقها في ملاذات آمنة تسيطر عليها سواء في سوريا أو في العراق، وإعادة اطلاقهم في المشهد الشرق اوسطي والعالمي.
يحقق ذلك لطهران استعادة دورها كشرطي فعال في المنطقة، وإعادة طرح الفكرة القائلة بأن التشدد الديني “الشيعي” وعلى الرغم من كل شعاراته المناهضة للغرب، هو تشدد وعنف موجه إلى الداخل الإسلامي وحسب، ولا يمكن مساواته بالتطرف السني، الموجه بكليته نحو الولايات المتحدة والغرب.
الحرب قامت