جسر: متابعات
يتعامل السوريون والسوريات مع الدعارة بكافة أشكالها، المعلنة والمنظمة والمقنّعة، وكأنها نتيجة حتمية للحرب، في حين تبدو الدعارة بحد ذاتها حرباً أزلية تدور رحاها على حيوات المستضعفين نساء ورجالاً وأطفالاً، وتعصف بالجميع لتحقيق المزيد من الأرباح، وتوسيع التجارة بالأجساد والكرامات والحيوات المهدورة، على حساب الكرامة الشخصية والحق في الدفاع عن النفس واختيار أسس العيش والخيارات الشخصية الحالية والمستقبلية، دون أي مقدرة للدفاع عن النفس وفي ظل غياب كل آليات الحماية اللازمة.
في حديقة شارع الثورة، طفلة بزي امرأة، لا تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، تحمل طفلة على يدها، تبدو الطفلة وكأنها لا تخص الأم المفترضة. تبدو الأم أماً وهمية، والطفلة مجرد أداة من أدوات الشغل كمن يستعير طفلاً مريضاً ليتسول عليه، طفلة يراد منها فقط أن توحي للآخر بأن المرأة محتاجة للمال وبشدة كي تطعم طفلتها الباكية والنحيلة والتي تغمرها غربة شديدة الوطأة، أو بأن الأم المفترضة (وربما تكون أماً حقيقية)، ليست طفلة بالمعنى الجنسي، ربما هي دعوة لطمأنة الذكور بأن لا شيء يمنع من جنس ارتجالي وعلى عجل، في مكان طارئ، قد يكون تحت درج أحد الأبنية، أو في مستودع قريب رخيص ورث.
تجلس الأم المفترضة بجانب رجل خمسيني جلس بالصدفة على أحد مقاعد الحديقة المهترئة، تقترب منه وبثقة تطلب منه إشعال سيكاره لها، يعتذر منها لأنه لا يدخن أصلاً، ويقول لها: ما زلت طفلة على التدخين، وينهض ليغادر، تضع الطفلة في حضنه وتقول له بلغة شبه واضحة المطالب: “بدك شي خدمة؟”، وعلى المقعد المجاور رجل يضحك بخبث وبلاهة. يتغير المشهد بالنسبة للرجل الخمسيني، يهرب التعاطف وتأخذه الظنون، ويصر على عدم حمل الطفلة ويغادر بعد أن وضع مائتي ليرة على المقعد.
في مكان آخر ثمة فتيات موجودات بتن معروفات، يقدمن خدمات الدعارة الفموية ع الماشي، في مداخل الأبنية أو في السيارة، أو في دكان قريب، مقابل مبلغ مالي محدد تقول إحداهن: “في إحدى المرات، وبمجرد دخولنا إلى أحد الدكاكين المتفق مع صاحبها على استعماله لمدة زمنية قصيرة مقابل بدل مالي، شعرت أنا والزبون بصوت إطباق القفل، يبدو أن أحدهم قد قرر المضايقة، لرغبة في وقف الأمر أو للترهيب أو للمشاركة في قبض مبلغ مقطوع جراء تكتمه. الرجل المذكور كان أحد جيران صاحب المحل، فقمت بتهدئة الزبون واتصلت بصاحب المحل المنسحب لبعض الوقت قصداً حسب الترتيب المتفق عليه، ليأتي مسرعاً كي يفك قفل الغلق ويعطي إشارة البدء بالعملية دونما ترقب أو خوف، لكن الزبون فر هارباً مصحوباً بخوف كبير دفعه لشتمي بشتائم دونية ومهينة وكأنه اكتشف مهنتي للتو”.
يزداد الحديث عن ازدياد اعداد النساء والفتيات والفتيان والشباب المنخرطين /ات في أعمال الدعارة المباشرة وغير المباشرة، في الأماكن الخاصة من بيوت وملاه وأندية ليلية وشقق مفروشة تتماشى خدماتها مع الحي ومستوى الفرش وموقع المكان الجغرافي وعمر المرأة أو الرجل موضوع الدعارة، وحتى السمسار له سعر مختلف حسب الخبرة وحسب ما يدفع كل زبون. بمعنى آخر لكل شيء ثمن، ولكل حالة ولكل طلب قيمة محددة، قابلة للازدياد طبعاً، لا النقصان.
يروي أحد سائقي التكسي الذين يعملون أثناء الليل عن حادثة وقعت معه، حيث وجد في أحد زوايا طريق فرعي في مدينة جرمانا، شابة عشرينية وربما أقل، تبكي وتعاني من كدمات ظاهرة على وجهها. أخبرته وهي ترتجف كيف دعاها أحد الشبان لمرافقته إلى بيته مقابل مبلغ مالي متفق عليه، لكن وحين وصولها فوجئت بأربعة شباب اعتدوا عليها جنسياً وضربوها ورموها خارج البيت بعد منتصف الليل دون أي تعويض، سوى الشتائم والسخرية والتهديد بالقتل والفضيحة. خرجت الفتاة محطمة ويائسة، تنتظر حلول الصباح لتعود إلى بيتها، لا لتنام فحسب، بل في محاولة منها لإخفاء معالم الاعتداء البادية على جسدها أيضاً. أما الشقاء الروحي والانكسار والذعر والخوف من كل شيء فهو تحصيل حاصل، هو حدث عابر لا يمكن الشفاء منه ولا التغلب عليه في ذات الوقت.
في شارع بائس كما هي أحوال أهله يقول لي احد الباعة: “هون حتى البنت يلي عمرها يوم مو عذراء”. كلام مؤسف وتوصيف عدائي واتهامي، لكنه يوحي بحقيقة الحال حسب الوصمة الاجتماعية العامة. البنات هنّ موضوع جنسي فقط ومصدر للرزق، رزق معمد بالدم والظلم والاهانات والوصمة القطعية، وبقائمة طويلة من المشاكل، قد تبدأ من ولادة أطفال بلا أب أو مكان للعيش الكريم أو المؤقت، أو أن ذويهم بلا موارد ابداً، وانتهاء بالأمراض المنقولة جنسياً والانتحار والأمراض النفسية الأخرى، وصولاً إلى الانخراط في الجريمة المنظمة، أو الجريمة العابرة في أمكنة محددة، يوصم أهلها جميعا بالعار وبالجريمة، ويضيّق عليهم حتى حدود الموت وهم أحياء.
يبدو الاستعراض مجرد لغو بلا نتيجة على الرغم من التأسف أو الرغبة بعدم التصديق، لكن القضية ليست موضوعاً للنشر وحسب، بل هي وقفة ضرورية جداً، تستوجب إعلانها والتركيز عليها لاتخاذ آليات حماية لمن يمكن حمايتهن /م أو للتخفيف من فائض البؤس الذي لا يجد طريقاً أمامه سوى زج أصحابه بمتاهات أعمق أوأكثر قتامة، صدامية ومقلقة وتحمل بين طياتها خسائر لا تعد ولا تحصى، الموت ليس أولها ولا آخرها.
المصدر: شبكة المرأة السورية