يمكن فهم الحفاوة السياسية والشعبية التي استقبل بها كرد سوريا مبادرة قائد قسد الجنرال مظلوم عبدي، الساعية إلى «توحيد الخطاب الكردي»، وذلك في ظل الفشل الوطني المستمر والامتحان السياسي القاسي الذي يخوضه الأكراد على الضفتين السياسيتين، تحديداً منذ أن كشف أردوغان، نيابة عن الإقليم، رصاصته الصريحة تجاه كل معطى كردي في المنطقة.
في خضمّ هذا الامتحان الذي بات مملّاً من شدة تكراره، تلقّفَ الشارع الكردي صيحة الجنرال الأولى، في خريف العام الماضي، وكأنها وثيقة العبور السحرية من أوحال المأزق السياسي والاجتماعي، الذي يكابده الناس ويخوضون فيه منذ أعوام. راحوا يعلقون الصيحة إيّاها إلى جانب أحلامهم الكثيرة؛ الوحدة! أعظم الأشياء البعيدة التي لطالما سعى إليها الكردي، بوصفها دواءً، كما يعتنق، لكلّ عللهِ.
لكن الرغبات في السياسة تبقى أمراً «جميلاً» فقط، ما لم تقترن بالحقائق. الواقع يقول، إن صياغة المأزق «الكردي» الحالي على إنه خلاف بين قوتين سياسيتين، يتحقق التمثيل الشعبي العادل بمجرد «اتحادهما»، أقل ما يقال عنها إنها صياغة تبسيطية، ولا تقنع أحداً سوى أهلها، والأطفال الأكراد في دواخلنا، اللاهثين أبداً حول نيران نوروز.
الواقع يقول إن صوت المجلس الوطني الكردي في الفصل المستجد من أسطورة الوحدة الكردية، صوتٌ هزيل ومبحوح، بالكاد يُسمَع من أهل ضفته، ولا يعني لهم الكثير. وعلى الضفة الأخرى، منظومة إيديولوجية صلبة ومتكاملة، تحيا، بإفناء غيرها؛ هناك، حيث يمكن لـ«شهيد» أن يشطب وجه الجنرال ومبادرته.
من جهة أخرى يعطي الإشراف الأميركي على المفاوضات الحالية، بعض الزخم المأمول، لكنه كالعادة مبالغ فيه شعبياً وسياسياً. لا يجب أن تُفهم المساعي الأميركية، في حالة التسليم بجديتها، خارج إطار عملية إعادة ترتيب واختزال القوى العسكرية والسياسية الفاعلة في الحالة السورية العامة. وهي لن تحتاج، في سبيل إنجازها كردياً، سوى إلى ورقة موقعة من «الطرفين»، قد تحصل عليها بشكل ما، إذا رمينا بكل حظنا في وجه القدر!
لكن، يبقى أن تبسيط الحالة الكردية قدر المستطاع، ودفعها ككتلة واحدة إلى المعارضة السورية وليس إلى النظام، هو ما قد تستثمر فيه أميركا كردياً. بالتالي، ليس ثمة ضامن يَعِدُ الأطرافَ بالعطايا، إن تحقق الوفاق السياسي الفعلي والأمن المجتمعي الكردي؛ لا أحد يتحمل مسؤولية الأخير، سوى من يتجاهله كل يوم.
أيضاً، قراءة المشهد الكردي الحالي بوصفه نسخة سورية عن الحالة الكردية في كردستان العراق تسعينيات القرن الماضي، هي محاولة نوستالجية، وغير دقيقة. المفاوضات التي حدثت بين الحزبين الرئيسيين في السياق العراقي، حزب الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي الكردستاني، نتج عنها انفراج عسكري وسياسي، وإن تضمن تقسيماً صريحاً لملامح السلطة في الإقليم الوليد، بحكم توزع قوى السيطرة على ضفتين واضحتي المعالم. ذلك على خلاف شكل العلاقة الغريب بين طرفي المفاوضات المفترضة في الحالة الكردية السورية، حيث طرفٌ، هو حزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية، يحتكر كل أدوات السيطرة، بعد أن رَاكَمَ خلال السنوات الماضية علاقةً صعبة الفكاك مع مفاصل السلطة والمجتمع، كان وقودها الإيديولوجيا، والاقتصاد، والكثير من الدماء. فيما يشغل الجانبَ الآخرَ من طاولة المفاوضات الراهنة المجلسُ الوطنيُ الكردي، الذي لم يعد يملك الكثير ليفاوض عليه، بعد أن استُنزِفَ شعبياً منذ تشكيله نهاية العام 2011 كجزء من المعارضة السورية.
يتم تبسيط الأمر عادة بقمع الاتحاد الديمقراطي لكل صوت مخالف، وهذا صحيح، لكنه جزءٌ فقط من حكاية طويلة. إنها محاولة لإخفاء عورة المجلس الكردي، بأحزابه وآليات عمله وخطابه… أمام كل هذه المرايا.
لكن، يبدو جلياً أن لورقة التمثيل الدولي التي يملكها المجلس وقعُ السوط على ظهر الإدارة الذاتية المكشوف، ومن خلال هذه العلاقة الملتبسة بين من يملك الرقبة الفعلية، وبين من يمسك سوطاً، نشأت حاجة الطرفين إلى لقاءات بروتوكولية، كانت تحدث بينهم سابقاً، عشرات المرات، ومن دون كل هذا الصخب، في غرف الطين الدافئة ومع كثيرٍ من الشاي المرّ.
المؤكد الوحيد هو أنه لن ينتج عن لقاءات «سعود الملا- صالح مسلم» انفراجٌ سياسيّ، يتبعه أمان واستقرار اقتصادي كحالة كردستان العراق، كما أن المعارك لن تندلع إذا تخاصما. إن كان التفاوض هو ما يريده المجلس مع الاتحاد الديمقراطي، بهدف مواجهته بكل المآخذ على طريقة إدارته للمنطقة، فإن السلال بما فيها ينبغي أن توضع على الطاولة دفعة واحدة، واللحظات التاريخية، كما يطلقون على هذه الأيام، تستدعي مراجعات شاملة ومكاشفات ثقيلة وأسئلة محقة.
في غياب كل هذا، وإلى أن يكشف «المصدر الرفيع» عن اسمه، ويتلو بيانه الهام على الأمة، فمن حق الشارع، الذي الذي تدّعي كل الأطراف تمثيله، أن لا يكفّ عن السؤال ولا عن الملاحظة.
بعد أشهر من لقاءات مباشرة، في واحدة من القواعد الأميركية شمال سوريا، كما دأبت على القول لنا «مصادر رفيعة ترفض الكشف عن اسمها»، فإن قيادة قسد تسلمت بالفعل من المجلس الكردي قائمة معتقلين ومختفين من عدة أسماء! يتهم الأخير حزب الاتحاد الديمقراطي بالوقوف ورائها. يحق للمجلس بالطبع، كما أن من واجبه، أن يسائل PYD عن كل انتهاك وقع في مناطق سيطرته منذ 2012، سياسياً على أقل تقدير. لكن على المجلس بدوره أن يقتنع بأحقية المطالب الشعبية والسياسية الداعية إلى كشف حصيلة سنوات الشراكة السياسية مع المعارضة السورية، بوصفها خياراً.
فيما لو كان المشروع السياسي المفترض الذي يحمله المجلس الكردي في مفاوضاته، هو استمرار اعتبار المعارضة السورية الرسمية بشكلها وخطابها الحالي ضامنة أو داعمة للوجود الكردي في سوريا، أو لأي حق في البلاد، فالنتيجة تُقاس طرداً مع حصيلة ما استطاع المجلس بكوادره ومؤسساته وقواته المسلحة تحقيقه في مناطق سيطرة شركائه السوريين والأتراك، من عفرين وصولاً إلى رأس العين.
ورقة التمثيل الكردي في المحافل الدولية، التي يُلوِّحُ بها المجلس في وجه الاتحاد الديمقراطي، وفي وجوه الجميع، وظّفها لتعطيل العمل السياسي، تماماً كما مارس الاتحاد الديمقراطي السلطة في المناطق الكردية بحكم الأمر الواقع. لم يقتل المجلس ولم يعتقل أحداً في سبيلها، كما يفعل الاتحاد الديمقراطي. ربما لم تسنح للأول فرصة الأدوات والسجون من أجل عقد المقارنات، لكنه مارس وما يزال كل الإرث الحزبي الكردي التقليدي في مواجهة خصومه.
من دون الخوض أبعد في: كيف أصبح لدينا تمثيل دولي؟ دعونا نسأل: ماذا تحقق؟ ما الذي حققه هذا التمثيل المفترض لجهة حماية الوجود الكردي قانونياً، وتقوية موقفه تفاوضياً؟ ليس فقط في مواجهة النظام السوري، بل في مواجهة المعارضة السورية وجمهورها أيضاً.
انتهت، دون عقاب، حادثة «الكرافة» الشهيرة لممثل المجلس الكردي في واحدة من صولات جنيف، حين وعدَ المتجمهرين المعترضين على مشاركتهم وفد المعارضة، وعدهم بالفيدرالية بكامل حلتها، من خلال مشاركتهم في مفاوضات جنيف، وإلا «فليعلقوه من ربطة عنقه»!
ما يُبقي المجلس على قيد الحياة هو القتال من أجل البقاء ضمن الائتلاف السوري المعارض، على أمل حجز مقعد دولي في الشأن السوري. وهذا ما يُصرِّحُ به المجلس دوماً، وتؤكد عليه واشنطن، وكان آخر التأكيدات قد جاء رداً على أنباء تحدثت عن تداول الملف في المفاوضات الأخيرة، وعن نية المجلس الانسحاب ونقل مقره إلى القامشلي.
تركيا بدورها غير راضية عن كل ما يتم تداوله، وهي ليست غائبة بالطبع، وبدأت تداعب المجلس الكردي، من خلال ورقة «التمثيل الكردي» ذاتها، وأقحمت في الائتلاف بالفعل أسماءَ كردية مصطنعة. وما تزال تملك الكثير لفعله.
على ضفة الجنرال، يمكن ملاحظة استياء مكبوت على ملامح أنصار الحزب في سوريا، تجاه التقارب الأخير مع «البرزانيين». هذا الاستياء المتأصل والمتبادل بين الطرفين، يتخذ أشكالاً عدة في الممارسات والتصريحات، ويجد له تبريرات كثيرة، بعضها محق. لكنها في معظمها تمارس حرباً إيديولوجيّة عمياء، وتدرك في صميمها أن آليات السيطرة المجتمعية التي صمّمها الحزب طيلة السنوات الماضية، لا تحتمل فكرة الانفتاح أو المشاركة الحقيقية، التي يفسرونها انقضاضاً على المكاسب أولاً، وثغرة سوف تؤدي تالياً إلى إعادة تفكيك المجتمع وعلاقاته وخيارته، ما يعني الخسارة الإيديولوجية المؤكدة، ويستدعي السؤال البديهي حول حصول المبادرة أساساً على المباركات المطلوبة من هناك!
محاولة فهم مصادر هذا الاستياء وحامليه من طرف «الآبوجيين»، تستحق جهداً فكرياً وسياسياً. لكن الجواب الحتمي يستوجب قدراً من الثورية في التفكير، يبدأ أولاً بإلغاء حالة الاستبداد المتفشي على أساس الانتماء الحزبي، الذي يستخدم أدوات السلطة وأختامها لفرض منظومة قيمه ورموزه وأسمائه، مستمراً بالطبع في الحديث عن الثورة الإدارية والقانونية التي رافقت ثورة الحزب المسلحة.
لكن المؤسف أن الحزب نفسه لم يستفد من البيئة السياسية «المريحة» التي يَدّعي خلقها في مناطق سيطرته، على أنقاض النظام السوري، بل مارس السلطة وكأنه يخوض حرباً أبدية مع ظلّه، صرفَ في سبيلها، ولا يزال، موارد وطاقات جبارة.
المناخ السياسي الذي أوجده الاتحاد الديمقراطي، بكافة مسمياته وأذرعه، في المناطق التي يسيطر عليها، يبدو نافراً وبشدة لكل ما هو مخالف، ناهيك عن تقبل فكرة الشراكة مع من يعتبره خصماً إيديولوجياً.
على المقلب الآخر، يستثمر المجلس الوطني الكردي في حالة العطالة الشاملة التي أنتجها حزب الاتحاد الديمقراطي، ليصرف النظر عن كل الاستحقاقات السياسية والتنظيمية، وعن الفشل الصارخ الذي ينخر بنيته. لماذا قد يلجأ المجلس إلى عقد مراجعات قاسية لأدائه، طالما تتسع عباءة PYD لكل فشله؟
من جهتها، تُصرّ السلطة الحاكمة في شمال شرق سوريا على تصدير المجلس بشخوصه وانتماءاته، على أنه «الآخر» الوحيد خارج سياج العقد الاجتماعي «المزعوم» الذي تحكم من خلاله المنطقة. وبمجرد الحديث عن بوادر تقارب مع المجلس، سوف يتحتم على الكرد أن يرضوا بطريقة حكمها وهي مرتاحة الضمير هذه المرة. بات جلياً أن هذه السلطة تتمسك بملف الوحدة والمفاوضات مع المجلس الكردي، أكثر من الأخير، هرباً على ما يبدو من استحقاقات ديمقراطية وقانونية كبرى تتجاوز المجلس وهمومه وانشغالاته.
في الخلاصة، يمكن القول إن مبادرة الجنرال لم تتجاوز، حتى الآن، إعادة سرد مكثّف لواحدة من تلك الاجتماعات الحزبية الرتيبة والمملة؛ لا شيء سوى حديث إنشائي مكرور وعقيم، وحمولات إيديولوجية عمياء، تلغي كل ما هو سياسي، وتؤسس دوماً للخطوة التالية إلى الوراء. نجحت المبادرة في إعادة تذكير الناس بتشتتها وهشاشة الأرض التي تقف عليها، واستحضار «الوحدة» باعتبارها وصفة سحرية، تُشفي كل العلل، وتَجبُّ كل ما سبق.
إن إفساح المجال أمام الحراك السياسي للمجلس الوطني الكردي، وإشراكه سياسياً وإدارياً في المنطقة، لا يتم عبر وساطات ومفاوضات لا يحتاج إليها من يملك القدرة والرغبة الفعلية في العمل. لا بد أن يكون ذلك تحصيل حاصلِ عملية سياسية ومعرفية أصيلة ومستمرة، تسعى أولاً إلى عقلنة الفضاء العام، وتهيئته سياسياً، ليكون قادراً على استيعاب كل الأصوات، وصوت المجلسُ أحدها. لكن هذه العملية تبقى محكومة بالفشل، ما لم تعمل أولاً وقبل كل شيء، على فكّ الارتباط بين سعر البندورة أو القمح في المنطقة، وبين الخطط المالية لتاجر محدد وجد لبضاعته سوقاً معتبرة في روج آفا، فيما ضاقت الأرض بساكنيها! هذا ما يمكن، وما يجب تحقيقه، أما الحاجة إلى وساطات دولية كي «تؤكدوا معاً على حماية الحقوق الكردية في سوريا المستقبل»، فإنها تعني أنكم لن تروا في المستقبل هناك، سوى أنفسكم، لتصفقوا لها!
حديث الوحدة الكردية مديد ومتشعب مثل حكايات الجدات… لا ينتهي.
المصدر: موقع الجمهورية ١٩ أيار/ مايو ٢٠٢٠