جسر: رأي:
انتهى “الإشكال” الذي أدى إلى اشتباكات بين فصائل تنشط في عفرين بتسليم العناصر المعتدية إلى ما يُسمى الشرطة العسكرية، مع تقديم وعود بإلغاء المظاهر المسلحة من المدينة. الاشتباكات، كما هو معلوم، بدأها عناصر من فصيل “الحمزات”، ألقوا قنبلة يدوية على محل لأن البائع رفض بيعهم بالدين بعد تراكم مستحقاته عليهم، ليتدخل مسلحون من “جيش الإسلام” و”أحرار الشام”، وليُكشف بعد مهاجمتهم مقر “الحمزات” عن وجود حوالى عشر نساء مختطفات لم يكن يُعرف مصيرهم، من بينهم خمس نساء كرديات.
نال الاشتباك المذكور “قبل ستة أيام” والمظاهرات التي تلته حظاً من الاهتمام الإعلامي لا تناله عادة الانتهاكات التي لم تتوقف في عفرين منذ أكثر من سنتين، أي منذ وقوع المنطقة تحت سيطرة أنقرة والفصائل التابعة لها بموجب إعادة توزيع مناطق النفوذ آنذاك. لكن التعدي على المدنيين وعلى أملاكهم ليس بالجديد على الإطلاق، والتعامل مع الانتهاكات يخضع غالباً للانتقائية المرتبطة بجنس الضحية، عربية كانت أم كردية. حتى الصدمة النسبية التي أحدثها اكتشاف سجن “الحمزات” سببها وجود نساء، بما أن امتلاك أي فصيل سجناً خاصاً به بات أمراً واقعاً.
لقد اكتشفنا مع الاشتباك الأخير وجود شرطة عسكرية، يُفترض بوجودها أصلاً أن يردع كافة المظاهر المسلحة في أماكن المدنيين، وكنا في الثامن والعشرين من شهر نيسان “عندما انفجر صهريج مفخخ وسط سوق المدينة” قد اكتشفنا وجود جهاز باسم “الأمن السياسي”، التسمية التي لا تخلّف أمناً وأماناً بل تذكّر بنظيرتها الأسدية وإرهابها. ذلك الانفجار الضخم خلّف عشرات الضحايا والمصابين، ولهوله أعلن الرئيس التركي شخصياً وسريعاً عن القبض على المتهم، إلا أننا لم نسمع أي خبر لاحق عن مجريات التحقيق أو التقاضي.
الاشتباكات بين الفصائل المسيطرة في عفرين، تحت يافطة “الجيش الوطني”، تحدث لسبب أو آخر متعلق بتقاسم النفوذ أو اكتساب المغانم، وهي تحدث في مناطق أخرى مثل إدلب. التعدي على الحريات الشخصية يحدث في عموم المناطق التي تسيطر عليها فصائل وميليشيات الأمر الواقع، انتهاكات تبدأ بالخلاف السياسي في بعض المناطق، وتمتد في أخرى لتطال الحيوات الشخصية مثل منع التدخين أو منع الاختلاط بين الجنسين أو فرض الحجاب على النساء. من وجهة النظر المتساهلة هذه، لا خصوصية لعفرين التي تنال نصيبها من الفوضى الحقوقية تحت تهديد السلاح، ويمكن الاستئناس بالجريمة الأخيرة للقول: ها هم زعران الفصائل يستهدفون عرباً، فلا يميزون بين العرب والأكراد.
قبل الاجتياح التركي خضعت عفرين لسيطرة وحدات الحماية الكردية التي أطلقت عليها تسمية كانتون عفرين، بعد انسحاب رموز السلطة الأسدية منها أسوة بباقي المناطق التي سيطرت عليها الوحدات من دون قتال. في جعبة وحدات الحماية الكثير من الانتهاكات التي تبدأ باستهداف خصومها الأكراد لتنتهي بممارسات مقلوبة عن ممارسات حزب البعث الشوفينية، وهناك تقارير دولية رصدت تلك الأفعال مثلما رصدت ممارسات نظيرتها من الفصائل العربية في أماكن سيطرتها. إلا أن ما ارتكبته الفصائل التابعة لأنقرة في عفرين يفوق ما صار معتاداً في أي مكان آخر، ولا وصف له أدق من الاستباحة التامة التي تعرض لها الأهالي وممتلكاتهم، وهي استباحة لم تحدث على هذا النحو سوى في الأماكن التي استعادت قوات الأسد السيطرة عليها.
لقد تسبب الاجتياح بتهجير ما يقارب 70% من سكان المنطقة الأصليين “الأكراد”، وما تبقى منهم ظلوا تحت تهديد إرهاب متواصل فالت من أدنى عقاب. عمليات مثل السطو المسلح العلني على الممتلكات، بما في ذلك المقتنيات الشخصية كالحلي والموبايلات، تحدث بلا أدنى حياء. الاختطاف بغرض الحصول على فدية يحدث أيضاً بشكل متواتر، ولا يندر في حال عدم توفر الأموال أن يُقتل المختَطف أو المختطفة وتلقى الجثة وتبقى الجريمة ضد مجهولين. عمليات الاحتطاب المنظمة بغرض الحصول على أخشاب للتدفئة والاتجار بها تهدد الثروة الزراعية للمنطقة، وهي المشهورة بأشجار الزيتون.
كان إطلاق اسم “بركات الغوطة” على عبوات زيت مُستخرجة من زيتون عفرين قد أثار الاستهجان قبل أسابيع قليلة، والحق أن التسمية لا ينقصها الاستفزاز ضمن الظروف الحالية. في ألطف أحوالها، هذه تسمية تشبه مقتل أبناء الغوطة في عفرين جراء اشتباك الفصائل الحالية المسيطرة، أو مقتل أكراد في سوق تل رفعت “العربية أصلاً” جراء القصف التركي. ولئن اقتضت خريطة النفوذ، التي لا حيلة للمدنيين من الجانبين إزاءها، وقوعهم في هذا الوضع الشاذ فإن المطلوب “والممكن” هو التعامل مع الوضع الحالي كوضع شاذ وقسري.
إن تمسك كل طرف بصفته كمهجّر قسري يعكس تمسكه بأرضه التي هجّر منها، ويُرتّب عليه التعاطي مع وجوده الطارئ “والذي يجب أن يبقى مؤقتاً” في المكان الجديد كضيف يلتزم بآداب الضيافة، وإن لم تكن الاستضافة حصلت برضا أصحابها. بخلاف ذلك مثلاً ما كنا قد رأيناه من احتجاج لبعض أهالي الغوطة على الاختلاط بين الجنسين في مدارس عفرين، حيث منح بعض الذين تم توطينهم لأنفسهم الحق بفرض نمطهم الاجتماعي على أهالي منطقة مغايرة بعاداتها الاجتماعية. في المنحى ذاته، يُفترض بجميع الأطراف التعامل مع أملاك الغائبين “المهجّرين” باحترام وأمانة، وبحيث لا يكون أي توطين قسري مدخلاً للسطو والعبث بها.
مسؤولية الجريمة المتواصلة في عفرين تقع على عاتق أنقرة أولاً، إذ من دون موافقتها الضمنية لا تستطيع الفصائل التابعة لها استباحة المنطقة والأهالي على هذا النحو وطوال هذه المدة. فشلت السياسة التركية في تثبيت ادعاءاتها حول التمييز بين الأكراد وحزب العمال الذي تضعه على لائحة الإرهاب، ولا يمكن اعتبار الفشل خارجاً عن إرادتها، مثلما لا يمكن تبرئة سياستها من الاستثمار في الانقسام العربي-الكردي وزيادة حدته. على الصعيد ذاته، قليلة هي الأصوات السورية المعارضة التي اكتسب انتقادها ممارسات وحدات الحماية الكردية “خاصة في أماكن سيطرتها العربية” مصداقيةً بانتقاد الفصائل التي سيطرت بعدها على عفرين، وفي الكثير من الأحيان راح المدنيون على الجانبين ضحية منطق التبرير والثأر السائد هنا وهناك. في غضون ذلك، توارت حقيقة أن من ينتهك حرمات الخصوم لا يوفّر “أهل بيته” عند اللزوم.
____________________________________________________________________________________
*نشر في المدن الثلاثاء 2 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا