جسر: متابعات:
الرغبة في الممارسة السياسية كانت إحدى دوافع الشباب السوري في الثورة على النظام، الذي منع السوريين من العمل السياسي وجعله حكراً على فئة محددة وضيقة، فعطل الأحزاب والنقابات، واحتكر حتى دراسة العلوم السياسية ناهيك عن السلك الدبلوماسي وجعلهما حكراً على المقربين منه.
لذلك كان من الطبيعي أن تواجه الخطوات الأولى للشباب في مجال الممارسة السياسية، التي أتيحت مع التنسيقيات واتحاداتها في أشهر أو سنوات الثورة الأولى مشكلات ومعيقات، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي، لكنها جميعها تتعلق بضعف الخبرة وغياب التجربة ومحدودية الثقافة السياسية التي نتجت عن القطيعة التي أحدثها النظام بين المواطن والسياسة.
علق السوريون بشكل عام آمالاً عريضة على مؤسسة الائتلاف التي تم تشكيلها نهاية العام ٢٠١٢، لكن آمال الناشطين المتحفزين للانخراط في الحقل السياسي كانت مضاعفة، والجميع كان يعول على أن يسهم توحد الغالبية الكبرى من القوى والشخصيات السياسية المعارضة في هذا الجسم، في مساعدتهم على تعلم السياسة وممارستها وربما احترافها، لكن خيبة الأمل كانت هي المحصلة للأسف.
والواقع، فإن هذا الموضوع نال حظاً كبيراً من النقد والتشخيص طيلة السنوات الماضية، إلا أنه يعاد طرحه بقوة اليوم مع الانتخابات التي أجراها الائتلاف مؤخراً لاختيار رئيس جديد ونواب رئيس له، هذه الانتخابات التي لم تخرج عن إطار التوقعات المسبقة، والتي عمقت نتائجها وطريقة إخراجها من خيبة أمل جمهور الثورة والمعارضة.
لا يتعلق الأمر فقط بلعبة تبادل الكراسي التي مورست بين رئيس الائتلاف ورئيس هيئة التفاوض، رغم أنها كانت العلامة الفاقعة في هذا المشهد، بل قبل ذلك وأهم من ذلك أيضاً هو سؤال الشرعية الذي يطرح منذ سنوات عدة حول الائتلاف دون أي إجابة.
عدم القدرة على إجراء انتخابات تفرز ممثلي الشارع في هذه المؤسسة جعل الائتلاف يستند في شرعيته على ما يضمه من قوى وكيانات وأحزاب معارضة يجمعها هدف إسقاط النظام وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية
لا يوجد دستور أو قانون معتمد يستمد منه الائتلاف شرعيته في تمثيل الثورة، كما أن عدم القدرة على إجراء انتخابات تفرز ممثلي الشارع في هذه المؤسسة جعل الائتلاف يستند في شرعيته على ما يضمه من قوى وكيانات وأحزاب معارضة يجمعها هدف إسقاط النظام وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، لكن حتى هذه الشرعية الجزئية والتي تم القبول بها لسنوات لم تعد متوفرة.
يتشكل الائتلاف من ١٤ كتلة، بعضها يمثل المكونات الاجتماعية، وأغلبها تستحوذ عليه الأحزاب والتيارات السياسية التقليدية، بالإضافة لكتلة العسكر.
لكن المفارقة الكبرى أن الكتل السياسية التي تستحوذ على غالبية مقاعد الائتلاف ال٩٣ بعضها لم يعد موجوداً عملياً، وبعضها انقسم وأعاد صياغة ذاته وفق تحالفات أو تشكيلات جديدة، لكنها مع ذلك ما تزال تحظى بالتمثيل في المؤسسة وفق ما كان عليه الأمر عند انضمامها!
المفارقة الثانية التي لا ينتبه إليها كثيرون، هي أن الأشخاص الذين دخلوا الائتلاف كممثلين عن الكتل ما زالوا أعضاء في الائتلاف رغم مرور ثماني سنوات على وجودهم فيه، ويمكنهم أن يبقوا فيه للأبد (حرفياً) إذا لم يقرروا الاستقالة من تلقاء أنفسهم، إذ لا ينص النظام الداخلي على فترة محددة لشغل عضوية الائتلاف، وهذا النظام يلحظ فقط إمكانية إضافة أعضاء جدد لكن حصراً بموافقة الهيئة العامة التي تتكون من الأعضاء الأساسيين أنفسهم!
بمعنى آخر، فإن هذه المؤسسة التي يفترض أنها تمثل الشارع الثوري والمعارضة، لم تعد تنطبق عليها بالفعل صفة الممثل لهذا الشارع، ومع ملاحظة إنها فقدت كثيراً من صفتها الاعتبارية كممثل سياسي لقوى الثورة والمعارضة دولياً، فإنها تواجه بالفعل تحدياً خطيراً على صعيد الشرعية المحلية، لكن أعضاءها والقائمين عليها ضد الاعتراف بهذا التحدي!
لقد كان على قوى الائتلاف السياسية أن تعمل خلال السنوات الماضية على إعادة إنتاج نفسها بشكل فعال، من خلال ممارسة العمل الحزبي والسياسي في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وفي الدول التي يوجد فيها المهجرون واللاجئون السوريون، وأن تستقطب الشباب الراغب بالعمل السياسي وتدربهم وتمنحهم فرصة المشاركة في نشاطاتها وتمثيلها، وصولاً لإعداد جيل جديد من السياسيين، لكنها بدلاً من ذلك استكانت للجمود والتحاصص الذي منحته لنفسها اعتماداً على القانون الذي صاغته لكي تحافظ على وضعها القائم في المؤسسة السياسية المعارضة الأكبر وهي الائتلاف، الذي فقد في النهاية جزءاً كبيراً جداً من أهميته وشرعيته ولم يتبق له سوى الوجود بقوة الأمر الواقع لا أكثر.
في برنامجه الانتخابي يعترف رئيس الائتلاف الجديد الدكتور نصر الحريري بالقصور في عمل الائتلاف وبالنقد الموجه له، ويعد بالعمل على معالجة مواقع الخلل بالتركيز على توطيد العلاقة بالداخل ومع الناشطين ومختلف قوى المعارضة، وهو أمر إيجابي من حيث المبدأ، لكنه عملياً لا يستند إلى محددات واضحة وخطة عمل مجدولة يمكن التفاؤل بها لمعالجة الخلل، فبدون الإقرار بالمشكلة الرئيسية والبدء ببرنامج معالجة علمي له لن يكون هناك أمل.