جسر: صحافة:
أنزلني بنفسه إلى القبو، وطلب معاملتي بشكل لائق، قبل أن أسلم أشيائي طلبت الذهاب إلى الحمام، وفيه أرسلت رسالة نصية لزوجتي أخبرتها بما حصل، وبسبب التوقيف.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2010، اتصل بي نقيب من شعبة الأمن السياسي، كان طارق جعفر شاباً في أواخر العشرينات من عمره، وسيماً وشديد التهذيب. وجاء ضمن دفعة من رجال الأمن الذين أراد من ورائهم بشّار الأسد أن يجمّل صورة نظامه وأجهزته الأمنية.
في تلك المرحلة أُعطِيت أجهزة الأمن تعليمات واضحة بأن تخفف من استخدام العنف البربري، الذي طالما كان عمودها الأساسي وأن تستخدم لغة أكثر تهذيباً مع الناشطين السياسيين. واستجلبتْ الإدارات الأمنية على عجل ضباطاً حقوقيين ليكونوا الواجهة النظيفة التي كانوا يتباهون بها ليؤكّدوا نهجهم “اللطيف” الجديد.
كان الأسد خرج لتوّه من الحصار الخانق الذي فرضه عليه الغرب بسبب مقتل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وقد لعب دور البطولة في إخراج الأسد من مستنقعه الرئيس الفرنسي ساركوزي، الذي دعاه إلى احتفالات 14 تموز/ يوليو عام 2008 وأجلسه إلى جانبه في الصف الأمامي. وكان ساركوزي يرغب في انضمام الأسد على مبادرة حوض المتوسّط، فمدّ له الجزرة، ولكنه قرّبها إليه أكثر من اللازم، فقضمها الأسد وطلب غيرها.
قال لي جعفر إن المقدم محسن عبد النور، رئيس القسم السياسي في فرع الأمن السياسي بالجبّة، يريد أن يشرب القهوة معي في مكتبه. كان في صوت جعفر رجفة ارتباك، وسألته إذا كان الموضوع يمكن أن يحلّ في ساعة من الزمن، فأجابني: “يا رجل! غلي فنجان القهوة يحتاج ساعة”، شعرت بأن الموضوع قد لا يكون مثل كلّ استدعاء سابق، إذ كان استدعائي لفروع الأمن، منذ إطلاق سراحي في 1991، أمراً روتينياً.
استقبلني محسن ببشاشة مصطنعة وارتباك. كنت أحاول أن أخمّن سبب الاستدعاء هذه المرّة، ولكنه لم يطل عليّ، فمرر لي نسخة من مقالة كنت كتبتها في جريدة “الحياة” عن تمدّد التيارات الإسلامية في سوريا.
فكرة المقال أن النظام عقد شبه اتفاق مع مشايخ دمشق بأن يتخلّوا له عن حقلي السياسة والاقتصاد، فيتخلّى لهم هو بالمقابل عن حقلي الثقافة والمجتمع، وكنا رأينا بالفعل ازدهار المعاهد الإسلامية وسطوة رجال الدين التي كانت تتعاظم يوماً بعد يوم، وهيمنة القبيسيات على نساء النخبة الدمشقية والمدن السورية الأخرى.
وكنت قبل فترة كتبت في جريدة النور الدمشقية عن مدرسة خاصة تهيمن عليها حركة القبيسيات ألغت درس الفائدة من منهاج الرياضيات، لأن الفائدة ربا، ودرس التكاثر البشري من مناهج العلوم، لأنه يخدش حياء الطلاب.
لم يحاول المقدّم محسن أن يناور أو يقدّم ويؤخّر. قال لي مباشرة إن “القيادة” غاضبة جداً من مقالاتي التي أتناول فيها علاقة السلطة مع التيارات الإسلامية. وبعد نقاش استمرّ ساعتين، لم يزايله فيهما التهذيب، قال لي بصوت مرتبك إنه آسف ولكنه مضطر لتوقيفي.
أنزلني بنفسه إلى القبو، وطلب معاملتي بشكل لائق. قبل أن أسلم أشيائي طلبت الذهاب إلى الحمام، وفيه أرسلت رسالة نصية لزوجتي أخبرتها بما حصل، وبسبب التوقيف. سأمضي في زنزانة فرع الأمن السياسي في الجبّة يومين فقط، ولكنهما كانا أسوأ من السنوات العشر التي سبق أن أمضيتها في سجون تدمر وصيدنايا وفروع التحقيق.
في اليوم التالي، سيفتح باب زنزانتي ويطلب مني العسكري أن أجمع أشيائي وأرافقه. صعد بي إلى الطبقة الأولى، حيث التقى بي محسن مبتسماً، وقال لي وقد بدا البشر عليه إنه سيطلق سراحي.
ما الذي حصل؟
في يومي توقيفي، بدأت كالعادة اتصالات نشطة للتوسط لإطلاق سراحي، أكثرها فعالية كانت اتصالات أجراها زوجان صديقان عزيزان، اتصلا بمستشارة الرئيس للشؤون السياسية والإعلامية بثينة شعبان، وأخبراها باعتقالي. طلبت منهما شعبان أن يأتياها ببعض مقالاتي، فاختارا أقلّها حدّة وانتقاداً، وأخذاها إليها.
في اليوم التالي لإطلاق سراحي، اتصل بي الصديق وقال لي إن الدكتورة بثينة تريد أن تراني، ذهبنا إلى مكتبها في قصر الروضة، وروت لي ما حصل خلال فترة توقيفي.
قالت لي الدكتورة شعبان إن الذي أمر باعتقالي هو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي اشتكى لوزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد، الذي طلب من رئيس الوزراء وقتها محمد ناجي العطري الأمر بتوقيفي بتهمة إثارة النعرات الطائفية.
أخذت المستشارة مقالاتي إلى بشّار الأسد وأرته إياها وقالت له إنه تمّ توقيفي بسبب تلك الكتابات، ووفق رواية شعبان، أبدى الرئيس انزعاجاً شديداً، وأعطى أوامره بإطلاق سراحي فوراً، وقالت لي شعبان حرفياً: “في سوريا لن نسمح لرجال الدين بتوقيف المثقفين”.
على أن صوتها لم يكن بالثقة ذاتها التي كانت تريد أن توحيها بكلماتها. كان في صوتها تردّد وانكسار، ولعلّها كانت في الدرجة الأولى مستاءة من أن معركة السلطة مع القوى الدينية لا تسير في مصلحة الأولى.
لجأ بشّار الأسد منذ توليه السلطة إلى عقد صفقة مع رجال الدين. وبعد غزو الولايات المتحدة العراق في 2003، أصيب الطاغية السوري بالرعب من مصير مشابه لمصير صدّام حسين، فلجأ إلى رجال الدين من أجل تجنيد سوريين للقتال في العراق، وبدأت الحكومة السورية تقدّم التنازل إثر التنازل لاسترضاء رجال الدين. فامتثل رئيس الوزراء مثلاً لمطالب المتشددين الإسلاميين بمعاقبة داري نشر سوريتين لنشرهما وتوزيعهما كتاباً حول الحجاب كانت السلطات السورية المختصة قد سمحت، أساساً، بطبعه وتداوله في سوريا. ثم حظرت نشاطات نسوية وعلمانية كانت مرخصة، من بينها جمعية نسوية سورية أطلقت استبيان رأي وزعته بين سيدات سوريات لمعرفة كيف تنظر السوريات إلى قانون الأحوال الشخصية السورية. كما حظر وزير الثقافة وقتها مؤتمراً صغيراً عن العلمانية كان سيقام في قاعة رضا سعيد في جامعة دمشق. في اللحظة الأخيرة وبعدما وصل ضيوف المؤتمر فعلاً إلى دمشق، اضطر المنظمون إلى عقده في المركز الثقافي الدنماركي.
وللمرة الأولى، يدين نائب سوري شعار “الدين لله والوطن للجميع”، الذي طالما افتخر السوريون به، ويرى أنه أدى إلى “تجييش المشاعر الدينية واصطفاف الديني في مواجهة القومي والعروبي والديموقراطي”. ويرى بفرح كيف أن هذا الشعار لم يصمد أمام انتخابات ديموقراطية جاءت بأصحاب العمامات واللحى إلى السلطة في العراق وفلسطين وإيران، من دون أن ينسى تركيا والانتخابات المصرية الأخيرة. إذاً، فالحل هو أن يتعاون التيار القومي والإسلامي “لرص الصفوف والبحث عن المشترك في تعزيز المواجهة”.
لقد كان النظام، ورئيسه شخصياً مَن أشرفَ على المزاوجة الرسمية بين الديني والقومي، على حساب ما هو علماني وديموقراطي ومنفتح. وهو من سمح لشيخ، كان ينبغي أن يركز على الفقه والعبادة والطقوس، أن يأمر باعتقالي.
حاول بشار الأسد أن يبدو كالبهلوان الذي يقفز فوق الحبال، فيقفز من حبل الدين إلى حبل العلمانية، فتراه تارة علمانيا متشدّدا وطورا متدينا. ولكنه بهلوان رديء، لم يتقن حرفته، لذلك تراه يتعثّر في كلّ مرّة، وقريباً سوف يقع بحيث يدقّ عنقه.
المصدر: درج 30/6/2020