جسر:صحافة:
لم يفهم سبب الغضب المتصاعد من نتائج بيان الاتهام الصادر عن مجلس المحكمة الدولية الخاصة بـ لبنان، المنعقد في لايدسخندام هولندا، إلا بسبب تلك الموجة الشعبوية التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعية في كل فترة، وتوجه جموع المغردين دون أية تفكير أو تمحيص، فلقد أصدرت المحكمة الخاصة من أجل لبنان، حكمها النهائي الاتهامي بحق أحد عناصر حزب الله، بتجريمه بثلاثة اتهامات على الأقل، أهمها تخطيط وتنفيذ اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، وقتل 21 شخصاً كانوا برفقته من المدنيين، أو تصادف وجوده في مكان التفجير، ومحاولة قتل 226 شخصاً كانوا قد أصيبوا بجروح في تفجير الرابع عشر من شباط في العام 2005..
ولعل هذا بالتحديد ما كان المراقبون يتوقعونه من المحكمة التي استمر العمل فيها منذ العام 2009، وبكلفة تجاوزت 600 مليون دولار، حيث تم توجيه الاتهام بشكل نهائي وحاسم لأحد منتمي حزب الله، المدعو سليم جميل عياش، وتم وقف الاتهام والملاحقة الصادرة بحق مصطفى بدر الدين بدعوى وفاته أثناء قتال حزب الله في سوريا، مع الاحتفاظ بحق استئناف ملاحقته في حال اكتشاف أنه لم يلق حتفه في سوريا، بالإضافة إلى تبرئة المتهمين الأربعة الباقين لعدم وجود أدلة كافية تدينهم وتثبت تورطهم في الاغتيال على الرغم من ذكرهم في شبكات الاتصال التي أحاطت بالحريري قبيل اغتياله، وهذا بالضبط هو أقصى ما يمكن للمحكمة أن تفعله في ظل استئثار حزب الله واستحواذه على لبنان وعلى قضاته وأرضه والأدلة بمجملها، وحتى تصفيته عدداً كبيراً من الشهود المرتبطتين بالقضية، وهو ما وضع سكة العدالة في لبنان لأول مرة في بلد شرق أوسطي على السكة الصحيحة، أما إن كان المترقبون للنتيجة يتوقعون إصدار أحكام إعدام بحق حسن نصرالله و بشار الأسد ، فذلك وهم تبناه من لم يكن متابعاً لمجريات المحكمة.
ولعل الساخطين على نتائج المحكمة والذين ينعون العدالة تناسوا أن المحكمة الدولية قامت بالأساس بناء على صفقة روسية – أميركية، اشترطت روسيا فيها عدم ملاحقة رؤساء الدول أو رؤساء الأحزاب، أي ملاحقة بشار الأسد رئيس نظام سوريا في فترة اغتيال الحريري أو حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في لبنان في ذات الفترة، وذلك تجنباً لتسييس المحكمة على حد زعم المندوب الروسي وقتها، وإلا فإن روسيا والصين سوف تقوم بشهر سلاح الفيتو ضد القرار الأممي الذي فتح الباب لتأسيس المحكمة الدولية في لبنان التي قامت على غرار محكمة يوغوسلافيا أو محكمة راوندا وسيراليون، وهي أول محكمة دولية تختص بشأن عربي، ولم يكن لتلك المحكمة أية فرصة في الوجود والاستمرار في التحقق والتحقيق في جريمة الاغتيال تلك لولا ذلك الاستثناء الروسي، وبناء عليه أقيمت المحاكمة وأجريت التحقيقات الأولى من نوعها في الشرق الأوسط وعموم العالم الثالث التي تصل إلى نتيجة قانونية دولية في أية جريمة اغتيال حصلت منذ مئة عام على الأقل، وتلك السابقة ستؤسس لعدالة أهم وستثير مخاوف القتلة قبل التفكير من جديد في ارتكاب أية جريمة سياسية مجدداً، صحيح أن الشارع المحبط كان يتوقع أحكاماً تطول قادة حزب الله أو قادة النظام في سوريا، إلا أن روسيا هي من تتحمل ذلك الشرط وتبعاته، حيث إننا شاهدنا جميعاً قدرة الفيتو الروسي الصيني على تعطيل عمل مجلس الأمن لسنوات امتدت لعقد كامل فيما يخص المسألة السورية.
رغم كل ذلك يبقى الواقع القانوني هو من يسير الأمور في نتيجة تلك المحاكمة، حيث اتفقت الدول المعنية بشؤون الشرق الأوسط على ترك الباب موارباً على الدوام لقادة الأحزاب المصنفة على أنها إرهابية للخروج وعقد تسويات وصفقات سياسية تجنب المدنيين الحرب والويلات، فبعد التصنيف الأوروبي للحزب على أنه حزب إرهابي، برفقة التصنيف الأميركي والكندي والعربي، بقي التصنيف خاصاً بالجناح العسكري للحزب وليس بالجناح السياسي، وتلك مناورة ذكية جداً من الغرب لتفادي حرب إلغاء وجودية مع حزب الله، على اعتبار أنه يحتكر حتى اليوم التمثيل الشيعي في البرلمان اللبناني برفقة حركة أمل، لذلك فإن تجريم أحد منتمي حزب الله بمقتل الحريري، هو بشكل من الأشكال تجريم للحزب بكامله، فمن غير المنطقي أن يقوم عنصر من الحزب بالتخطيط والتنفيذ لعملية بهذه الضخامة من دون استشارة قادته، وحتى يتم تسليم سليم عياش نفسه للمحكمة واستكمال التحقيقات لن نتمكن على الإطلاق من تحديد مَنْ أعطى الأمر السياسي أو العسكري لتصفية رفيق الحريري، وعليه فإن شبك إبرة الاتهام في ثوب الحزب بشكل قانوني، هي من ستنقل النيران إلى ذات الثوب يوماً ما، ولكن الأمر يحتاج إلى صبر وتأنٍ، بعيداً عن الثأر والغضب، والانتقام القطيعي الذي لم ولن يحصل على الإطلاق، وإن حصل فستكون نهاية لبنان الذي نعرفه حيث ستحرق الحرب الأهلية الجديدة ما تبقى من البلاد المنهكة من الفساد و مغامرات حزب الله العسكرية في بلدان الجوار.
لقد أثبتت المحكمة الدولية موثوقية قانونية كبرى في تبرئة من يجب تبرأتهم و تجريم من يجب تجريمهم، بحيث أصبح الاتهام صادقاً وغير مسييس ويستند إلى أدلة و وقائع لا يمكن تجاهلها، فالأربعة الذين تم إسقاط التهم عنهم لعدم اكتمال الأدلة هم أيضاً من حزب الله، و من عناصره الاستخباراتية العسكرية، مثل عياش المتهم أيضاً بمحاولة اغتيال مروان حمادة وجورج حاوي، وعليه فمن ينتظر من الغرب أن ينتصر لقضايانا وللعدالة بغضب أولياء الدم واهم، فالحقيقة والعدالة تحتاج لرؤوس باردة وعقول منفتحة لتحقيق العدل ولكشف الستائر عن الحقيقة بعيداً عن الانتقام القبلي، العدالة تختلف عن الانتقام القبلي نحن نحتاج للقانون والعدل بشكل أكبر من حاجتنا للدم والتحريض لقد اختبرنا الحرب، واختبرنا نتائجها، بحيث لم يبقَ لنا نحن المحاصرون بالسلاح من طهران إلى بيروت إلا الانحياز للقانون من جهة أخرى تبقى معركة استمرار المحكمة ووصولها إلى نتائج حقيقية، هي انتصار آخر ضد محاولات حلف الممانعة في إفشال المحكمة عبر تشويهها وقتل شهودها وتدمير أدلتها هي معركة مستمرة وليس قرار المحكمة هو نهايتها حتماً.
نشر في موقع تلفزيون سوريا