جسر: مقالات:
اكتسبت قيادة “قسد” جرعة معنوية ضخمة بإبرامها اتفاقاً نفطياً مع شركة أمريكية، أواخر الشهر الماضي، فدخول الشركة الأمريكية يوحي باطمئنانها إلى وجود أمريكي طويل الأمد. على صعيد متصل، يحلّ الشق الاقتصادي من العقد مشكلة الإدارة الكردية التي تحتاج إيرادات النفط مثلما تحتاجه لسوقها المحلية، وكذلك يعفي واشنطن من الالتزامات المالية تجاه قسد، خاصة بوجود ترامب الذي يفاخر بتوفير أي مبلغ من النفقات الخارجية.
الاتفاق، كما أُعلن عنه، أتى بعد مفاوضات مع مظلوم عبدي، وهذه لفتة أمريكية جديدة تجاه الأخير، إذ تكرس عملياً القائدَ العسكري في موقع الزعامة العامة، وتمنحه أفضلية التوقيع على أول عقد خارجي من نوعه. بالطبع، استغرقت مفاوضات إنجاز العقد واختيار الشركة الأمريكية الراغبة فيه أشهراً، وتلفت الانتباه تلك الأخبار التي تسربت قبل حوالى شهر من إعلانه ومفادها إعفاء المسؤول النفطي السابق في الإدارة الذاتية من منصبه، والمقصود هو مسؤول الظل الكردي التركي القادم عادة من جبال قنديل. جدير بالذكر أن ظاهرة مسؤولي الظل، وهم المركز الحقيقي للقرار، لطالما أثارت انتقادات من قبل أكراد سوريين لا يتبعون منظومة حزب العمال، على الأقل لما فيها من استهانة بالعنصر الكردي السوري وتضحياته على مذبح الحزب.
كما هو متوقع، أدانت سلطة الأسد الاتفاق النفطي واعتبرته سطواً، أما ما لم يكن منتظراً فهو تصريح جميل بايق الذي يعتبر حالياً الزعيم الفعلي لحزب الكردستاني ويرى فيه أن نظام الأسد يحظى بالشرعية في المؤسسات الدولية، ويحظى تالياً بأحقية السيطرة على النفط والغاز. وتصريح بايق، وإن كان يتلطى وراء ما يصح شكلياً، هو بمثابة ضربة موجهة إلى مظلوم عبدي، ولعله يدلنا إلى الرابط بين إعفاء المسؤول النفطي التابع لمنظومة بايق وتوقيع الاتفاق.
كان فؤاد عليكو، القيادي في المجلس الوطني الكردي، قد لاحظ تعقيباً على الحوار الأخير لجميل بايق “مع قناة ستيرك التابعة لحزبه” توجهه إلى مسلحي جوانين شورشكر لا إلى وحدات YPG التي يرأسها مظلوم عبدي. بعد حوار جميل بايق بأيام قليلة، في منتصف هذا الشهر قام مسلحو جوانين شورشكر بالاعتداء على مقر الحزب الديموقراطي الكوردستاني في مدينة القامشلي، واعتُبر الاعتداء نوعاً من التشويش على الحوار الكردي-الكردي الذي يقوده مظلوم عبدي كزعيم لمنظومة الإدارة الذاتية العسكرية والمدنية. يمكن تالياً اعتبار الاعتداء رسالة لعبدي من قبل قيادات قنديل، والأخيرة كما هو واضح غير راضية عن الحوار الذي تحرص واشنطن على استمراره ونجاحه.
التعويم الأمريكي لمظلوم عبدي، وهو ليس بالجديد تماماً، ثم قيادته الحوار الكردي أفسحا الطريق أمامه ليكون الشخصية الأعلى شعبية في الوسط الكردي بمجمله، بما فيه بين أنصار أحزاب المجلس الوطني الذين أصبحوا مستعدين للإشادة به وتوجيه سهامهم إلى قيادات جبل قنديل. هو ابن كوباني ومحررها من داعش، وهو من يتصل ثم يشيد به رئيس الولايات المتحدة، وتنافس موسكو على خطب وده عبر وزير دفاعها. لا زعيم كردياً آخر نال هذه الحظوة من قبل، سواء من زعماء الأحزاب الكردية السورية الأخرى، أو من السوريين المنتسبين إلى حزب العمال والذين كانوا مغمورين بمجملهم حتى اقتضت المصلحة إنشاء الفرع السوري للحزب بمسمى مختلف.
يبزغ نجم عبدي في ظرف كردي ليس هو الأفضل خلال العقد الأخير، فالفترة الذهبية كانت مع سيطرة وحدات الحماية الكردية على الشمال السوري بأكمله تقريباً، إلا أن تلك الفترة ذاتها كانت تُحسب للقيادات التركية المهيمنة أكثر من احتسابها لنظيرتها الكردية السورية، وحتى “جرح” التخلي عن عفرين حُمّل لقيادات الظل التركية، ووجد التحميل ضالته بتصريح منسوب إلى أوجلان يدعو فيها الحزب في سوريا إلى مراعاة الحساسية التركية. بعد عفرين أتى التخلي الأمريكي لصالح أنقرة عن المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين، ما أجهز تماماً على حلم قادة قنديل بتحويل الشمال السوري كقاعدة لحرب عصابات في المناطق الكردية التركية. أي أن زعامة عبدي تأتي من مساهمته في تلك الانتصارات القريبة زمنياً، ومن عدم تحميله مسؤولية الخسارات اللاحقة، بل أيضاً من الحاجة المعتادة إلى “الزعيم” في أوقات الانكسار.
“على الزعامة أن تكون جامعة”، يتوافق هذا مع ما يُشاع عن ضغوط أمريكية لتوحيد البيت الكردي السوري والانفتاح على ممثلين حقيقيين لمكونات المنطقة من عرب وأشوريين وسواهم. ربما علينا ألا نأخذ كل ما يصدر خارجياً على المستوى ذاته من الجد، فأنقرة التي تضع عبدي على رأس المطلوبين لديها لها مصلحة في فك الارتباط بين أكراد سوريا وحزب العمال الكردستاني، وعلى الضد من التصريحات الإعلامية المتكررة هناك تقرير لوزارة الخارجية التركية ينسب إلى أوجلان القول أثناء محاكمته أن مظلوم عبدي “الذي رافقه خلال فترة من التسعينات” كان يشجعه على السلام مع أنقرة. بعبارة أخرى، قد لا يكون المسعى الأمريكي بعيداً عن مطالب أنقرة بفصل الفرع السوري عن الحزب الأم، مع احتفاظها بهدف إضعاف المسألة الكردية في سوريا قدر ما تستطيع.
على الصعيد الشخصي، تكاد تجربة الأحزاب الكردية السورية تكون مقتصرة على النخب، وهو حال نظيرتها من أحزاب المعارضة العربية تحت حكم البعث، وتلك وضعية لا تتيح بروز زعامات على المستوى الشعبي، ولا تسمح بالتفاعل بين القيادات والجمهور الواسع. تقريباً كل الأحزاب الكردية التقليدية تناسلت من الحزب الديموقراطي المشهور باسم “البارتي”، واحتلت شخصية مصطفى ملا البارزاني مكانة محورية في وجدان الأكراد السوريين، خلال عقود سابقة على دخول شخصية أوجلان لتنافسها. بين البارزاني وأوجلان، لم تظهر زعامة سورية منافسة، أو لم تسمح الظروف المحلية ببروزها إلى أن أُتيحت هذه الظروف مؤخراً لمظلوم عبدي الذي يبدو مرشّحاً لمكانة لم يصل إليها من قبل قيادي كردي سوري.
لن يكون عبدي أوجلان سوريا، فالمفارقة أن واحداً من الشروط الأساسية لزعامته هو الخروج من عباءة حزبه، إذ لا يستقيم أن يكون زعيماً ومأموراً من جميل بايق مثلاً، ولا يستقيم أن يكون زعيماً كشبح لزعيم آخر، فضلاً عن أن الزعامة الجامعة تقتضي التخفف من الحمْل الأيديولوجي. علينا في السياق نفسه ألا نغفل تلك الحاجة إلى قضية كردية سورية المرافقة للحاجة إلى زعيم يحملها، ومن المحتمل جداً أن يثقل هذا التلازم مهمة عبدي الذي يتقدم حتى الآن ببطء وحذر.
قد لا يكون هناك ما يثير غضب قيادات قنديل بقدر فكرة فصل الفرع السوري نهائياً، الفصل التام يضرب مشروع حزب العمال كحزب قومي لكافة أجزاء كردستان، وعطفاً على عدم نجاحه في العراق سيحرمه الفشل السوري من الخزان البشري الذي طالما كان سنداً لذراعه العسكري في تركيا. لا يخفى أن زعامة الحزب احتفظت دائماً بعلاقات دافئة مع سلطتي الملالي والأسد، والأخيرة استفادت لعقود من توجه الاهتمام الكردي السوري والمتطوعين معه إلى تركيا بدل الانشغال بالشأن الكردي السوري. ضمن الظروف الحالية، من هنا تأتي الإعاقة التي تعرضت وستتعرض لها زعامة عبدي، ومن هنا أيضاً سيأتي الخطر في حال فشلت محاولات إعاقته.
خارج البيت، الطريق ممهدة ومفروشة للزعيم، يبقى عليه أن يتمكن من الخروج، وربما قبل ذلك أن يزيل الألغام التي تفخخ البيت.
المدن ٢٥آب.اغسطس ٢٠٢٠