جسر: ترجمة:
يبدو أن هيئة تحرير الشام قد قطعت شوطاً طويلاً منذ ذاك اليوم في أواخر عام 2011 حين عبر بضع عشرات من الجهاديين من العراق إلى شرق سوريا لتأسيس جبهة النصرة. فمنذ انبثاقها عن جبهة النصرة في عام 2017، أمست هيئة تحرير الشام تسيطر الآن على آخر معقل للمعارضة السورية في شمال غرب البلاد. والواقع أن أولئك الرجال، الذين تم إرسالهم من قبل قيادة الدولة الإسلامية في العراق والتي هي سلف لتنظيم داعش، سوف ينقلبون لاحقاً ليس فقط على داعش – ويشنون حملة لا هوادة فيها لاعتقال أعضائها وإعدامهم – بل وأيضاً على تنظيم القاعدة في سوريا. وقد خلقت هذه التحولات انقسامات حادّة داخل صفوف هيئة تحرير الشام والحركة الجهادية العالمية. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، أصبحت الهيئة تتسم على نحو متزايد بطابع عملي نابع جزئياً من رغبتها الشديدة في البقاء والسيطرة على شمال غرب سوريا.
التحركات الداخلية
خلال السنوات الثلاث الأولى من وجودها، ازدادت قوة جبهة النصرة بشكل ملحوظ واتبعت علاقات تعاونية مع المجموعات الأكثر اعتدالاً . ومع توسع نفوذها تدريجياً في إدلب – التي كانت آنذاك مجرد واحدة من العديد من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة – تبنَّت جبهة النصرة سياسة أكثر عدوانية في التعامل مع فصائل المعارضة. ففي عام 2015، قامت بشنّ سلسلة من الهجمات على مجموعات الجيش السوري الحر التي اعتبرتها تهديداً لها بسبب الدعم المقدم لهم من قبل وزارة الدفاع ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وبعد أن قضت جبهة النصرة على معظم الجيش السوري الحر أو استولت عليه في فترة 2017-2019، توجهت لقتال الفصائل الإسلامية مثل أحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي في محاولة منها للسيطرة على الموارد المالية للمنطقة (ولا سيما من المعابر التجارية) وترسيخ هيمنتها العسكرية هناك.
عن طريق هذا الاقتتال المتكرر بين فصائل المعارضة، تمكنت هيئة تحرير الشام من السيطرة على إدلب. ولا تزال فصائل معتدلة أكثر تعمل في المنطقة ضمن إطار الجبهة الوطنية للتحرير التي تتلقى العتاد والأسلحة من تركيا. إلا أن وجود هذه الفصائل في إدلب يخدم مصلحة هيئة تحرير الشام، حيث أن الهيئة كانت قد أضعفت الفصائل إلى درجة أنها لا تشكل بمفردها أي تهديد لسيادتها ولكن لاتزال تعمل كقنوات لتمرير الدعم التركي الذي تحتاجه الهيئة في القتال ضد نظام الأسد. والآن وبعد أن أصبحت هيئة تحرير الشام مرتاحة في موقفها، فإنها تشترك في تعاون وثيق مع فصائل الجبهة الوطنية للتحرير كجزء من غرفة عمليات “الفتح المبين” العسكرية المشتركة والمجلس العسكري الناشئ.
انفصال كبير
في أواخر عام 2017، سمحت قيادة هيئة تحرير الشام للجنود الأتراك بدخول إدلب والالتزام بوقف إطلاق النار كجزء من مباحثات أستانا، والتي كانت عبارة عن مفاوضات ثلاثية الأطراف حول مستقبل سوريا جرت بين تركيا وروسيا وإيران. وكان القرار بمثابة تحول كبير في موقف هيئة تحرير الشام. حيث أن الهيئة، إلى جانب العديد من المنظمات الجهادية، رفضت في بداية الأمر الالتزام بأي وقف إطلاق نار مؤقت مع النظام. وعلاوة على ذلك، فإن هيئة تحرير الشام كانت قد انتقدت الفصائل الأخرى لتعاونها مع تركيا والتزامهابمثل وقف إطلاق النار هذا.
كان قرار قيادة هيئة تحرير الشام بالقبول ضمنياً بوقف إطلاق النار، الذي لعبت تركيا فيه دور الوسيط، شديد الإثارة للجدل. حيث أن أعضاء هيئة تحرير الشام الذين عارضوا دخول القوات التركية إلى إدلب، إما انفصلوا وشكّلوا تنظيم حراس الدين، فرع القاعدة في سوريا، أو تم تهميشهم داخلياً من قبل الجناح البراغماتي للهيئة بقيادة أبو محمد الجولاني. وكان القرار نابعاً من إدراك حقيقة مفادها أنه بدون وجود القوات التركية فإن إدلب ستقع في أيدي النظام. وكان هذا يعني ليس فقط نهاية مشروع حوكمة هيئة تحرير الشام، بل وأيضاً تدمير آخر معقل للمعارضة في سوريا.
منذ دخول القوات التركية إلى إدلب، أوقفت هيئة تحرير الشام عملياتها الهجومية باستثناء تلك التي قامت بها أثناء الحملات العسكرية التي بادر بها النظام. ومنذ عام 2019، خلال الفترات التي انقطع فيها النظام عن الهجوم على إدلب، لم تلتزم هيئة تحرير الشام بوقف إطلاق النار فحسب، بل و سعت أيضاً إلى منع الفصائل الأكثر تطرفاً من مهاجمة قوات النظام. ففي فترة حزيران – تموز من عام 2020، قامت الهيئة باعتقال قادة عدة فصائل جهادية مجبرةً إياها على الانسحاب من خط الجبهة وتسليم أسلحتها الثقيلة. وردد عضو تركي في تنظيم حراس الدين شكاوى الفصائل الجهادية الأخرى، حيث قال: “لقد ضلت هيئة تحرير الشام طريقها وتخلت عن الشريعة، وأصبحت أكثر قرباً من مجموعات درع الفرات” (قاصداً بذلك الفصائل السورية الوكيلة لتركيا التي تسيطر على شمال حلب).
كما منعت هيئة تحرير الشام تشكيل أي غرفة عمليات أخرى غير الغرفة التي ترأسها، الأمر الذي أدى فعلياً إلى حظر العمليات الهجومية ضد نظام الأسد دون إذن منها. وفي تبرير لهذه الخطوة، قال تقي الدين عمر، مدير العلاقات الإعلامية في هيئة تحرير الشام: “لا معنى لبقاء فصائل صغيرة تقرر السلم و الحرب ولا تتحمل تبعات المعركة”. وبالفعل، فقد نفذت روسيا والنظام السوري عمليات قصف عشوائي على مختلف أنحاء إدلب رداً على هجمات صغيرة النطاق شنتها فصائل جهادية.
تسعى قيادة هيئة تحرير الشام إلى تقديم التغيير داخل الجماعة على أنه انفصال أيديولوجي حقيقي عن تنظيم القاعدة. حيث يبدو أن استراتيجية القاعدة المتمثلة بالحرب غير المتكافئة من قبل طليعة صغيرة تصبح بصورة متزايدة موضع تساؤل في الأوساط الجهادية بسبب فشلها في تحقيق أيٍّ من أهدافها. ففي السنوات الأخيرة، انتقلت العديد من الجماعات المرتبطة بالقاعدة من إعطاء الأولوية للحرب اللانهائية ضد الغرب إلى التركيز على السيطرة على الأرض، وحكمها، وبالتالي الحفاظ على القليل من الدعم الشعبي على الأقل. ومن بين تلك الجماعات كانت هيئة تحرير الشام التي ذهبت لأبعد الحدود في ذلك حيث لم تتخلى عن عملياتها الخارجية فحسب، بل وأيضاً عملياتها الهجومية داخل سوريا، وأعطت الأولوية للسيطرة على الأراضي والعمل لتحقيق الحوكمة.
الحوكمة
في إدلب، تحاول المنظمات غير الحكومية وحكومة الإنقاذ السورية المرتبطة بهيئة تحرير الشام التعويض عن غياب مؤسسات الدولة. لكن تفتقر حكومة الإنقاذ إلى الموارد اللازمة لتلبية احتياجات ثلاثة ملايين من سكان المنطقة بشكل كامل. حيث أن معظمهم كانوا قد نزحوا من منازلهم، ويعيش الآن أكثر من 1.1 مليون منهم في مخيمات. ونظراً لارتباط حكومة الإنقاذ السورية بهيئة تحرير الشام المصنفة إرهابياً حسب الأمم المتحدة، فإن الجهات المانحة الدولية ترفض التعاون معها. وبالتالي فإن المنظمات غير الحكومية تقدم أغلب الخدمات العامة القليلة المتاحة.
تتبع حكومة الإنقاذ نهجاً متوازناً تسعى فيه غالباً إلى استمالة المنظمات غير الحكومية والتحكم بالمساعدات الإنسانية التي تقدمها دون تجاوز حدودها – خشية أن يؤدي ذلك إلى سحب هذه المساعدات. على سبيل المثال، في عام 2018، عندما أوقفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووزارة التنمية الدولية البريطانية مرور المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى، قامت هيئة تحرير الشام بإنهاء فرض الضرائب على شاحنات المعونات التي كانت قد دعت الهيئة لاتخاذ تلك الخطوة أساساً. ويبدو أنه بإمكان المنظمات غير الحكومية الدولية الكبيرة إيقاف محاولات الاستيلاء على المساعدات أو فرض الضرائب عليها، ولكن المنظمات الأصغر – خاصة تلك التي لا تتلقى الدعم الدولي – فهي ملزمة بتسليم جزء من مساعداتها إلى هيئة تحرير الشام.
والواقع أن محدودية قدرة حكومة الإنقاذ السورية على توفير الخدمات العامة، والظروف المعيشية البائسة في إدلب، وفرض الضرائب على السكان، كان قد أثر سلباً على شعبية هيئة تحرير الشام، ولكنها ليست الوحيدة التي تواجه مشاكل بخصوص مصداقيتها. حيث بالرغم من أن كل الجماعات المعارضة لا تزال تحظى ببعض الدعم الشعبي، إلا أن السجل الحافل بالفشل لهذه الجماعات في التصدي لهجمات النظام الأخيرة وصورتها كبيادق في أيدي الجهات الخارجية إلى جانب سلوكها الاستبدادي كان له عليها نفس التأثير السلبي الذي لحق بهيئة تحرير الشام. وفي الوقت نفسه، يشعر السكان إلى حد كبير بالخوف من احتمال استعادة النظام للسيطرة على إدلب، الأمر الذي قد ينطوي على مجازر كبيرة. ولهذا السبب فإن سكان المنطقة يرون هيئة تحرير الشام على أنها الأفضل من بين العديد من البدائل الرديئة.
ليس هنالك أي هدف نهائي واضح لمشروع حوكمة هيئة تحرير الشام في إدلب. حيث أنه في الوقت الحالي تبدو قيادة الهيئة راضية بالاحتفاظ بالسيطرة على إدلب وانتظار الفرصة لعملية سياسية تسفر عن إسقاط النظام أو تحقيق اللامركزية بشكل رسمي في سوريا. وفي حين أنها تعتزم رسمياً استبدال نظام الأسد بشكل من أشكال الحكم المستوحى من تفسيرها للمبادئ الإسلامية، إلا أن قيادة الهيئة قد تخلت عن خطاباتها السابقة حول إنشاء دولة إسلامية في سوريا، ولكن لم تفصح بوضوح عن بديلٍ آخر.
العلاقات الخارجية
ينعكس التحول في هيئة تحرير الشام في أسلوبها المتّبع مع المجتمع الدولي. حيث لم تكن جبهة النصرة تكترث بالحدود الدولية وقامت باختطاف الصحفيين الأجانب مقابل الفدية، بينما تفتخر الآن هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ السورية بالترحيب بالصحفيين والباحثين الأجانب و توفر لهم الحماية. لكن لا تبدو هيئة تحرير الشام مهتمة بالمشاركة في العمليات السياسية الدولية المعنية بالشأن السوري، حيث أن هذه المفاوضات تفتقر إلى الدعم الشعبي ويُنظر لها كثيراً على أنها غير مواتية لمعارضي النظام السوري. ولم تقم الهيئة بتأسيس جناح سياسي لكن يتعامل بعض قادتها مع وسطاء دوليين.
تبدو هيئة تحرير الشام منفتحة أكثر فأكثر على التعامل مع الدول الغربية في ما يتعلق بقضايا الأمن المشتركة مثل داعش، وتهتم بشكل خاص بإعادة المساعدات الإنسانية والاستقرار إلى إدلب التي انخفضت بشكل كبير بعد أن سيطرت الهيئة على المنطقة.
يتعين على الجهات الغربية التي تشعر بالقلق إزاء مصير المدنيين في إدلب أن تعبر عن مخاوفها ومطالبها بشكل واضح لهيئة تحرير الشام، وإن اضطرت أن تفعل ذلك بشكل غير مباشر خوفاً من التبعات القانونية للتعامل مع مجموعة مدرجة دولياً على قوائم الإرهاب. حيث كان للتدخل التركي في إدلب أثر إيجابي في تحقيق أولويات الغرب كوقف تدفق اللاجئين والتضييق على الجماعات الجهادية، إلا أنه لم يحل أزمة السوريين العالقين في إدلب. ومن الممكن للجهات الغربية اختبار المقدرة البراغماتية للهيئة والعمل على مجموعة من الأولويات تتضمن طرق لإعادة تمويل دعم الاستقرار في المنطقة دون تدخل من الهيئة في توزيع المساعدات أو السيطرة على جزء منها، وكذلك طرح قضايا انتهاكات حقوق الإنسان مثل تعامل الهيئة مع الأقليات الدينية، وتجنيد الأطفال، وقمع المعارضة السياسية وسوء معاملة المعتقلين. وفي حين تلتزم هيئة تحرير الشام رسمياً بأيديولوجية متشددة ومن غير المرجح أن تتراخى بالنسبة للقضايا المتعلقة ببقائها، فإن التدخل الغربي الحذر مع الهيئة قد يسرع من تحول مسارها نحو البراغماتية.
إليزابيث تسوركوف زميلة باحثة في مركز السياسة الدولية وهو مركز دراسات وأبحاث مقره العاصمة واشنطن، حيث تركز في أبحاثها على بلاد الشام. وهي طالبة دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة برينستون. كما عملت أيضاً كمستشارة مع مؤسسات ومنظمات من بينها: مجموعة الأزمات الدولية، فريدم هاوس (بيت الحرية)، المجلس الأطلسي، والمعهد الأوروبي للسلام، وغيرهم.
لقراءة المقال في المصدر اضغط هنا