خليفة الخضر
عندما ذهبت في سياحة قسرية إلى الكهف الأسود المظلم في سوريا (سجن تنظيم الدولة)، ذاك الكهف، الذي التهم الكثير من أهالي البلد، التهمهم كحراس وكسجناء داخله، كنت أظن أن الموت حاصرني، وأن حياتي قد دنا أجلها داخل الكهف. أحاول طرد فكرة الموت باستذكاري للحر الصيف، وانقطاع الكهرباء، ولمس سور شرفة المكتب الصدئة.
كنت أطرد فكرة الموت من بالي داخل الكهف الأسود، أغوص بكل ما التقطته عيني من صور طيلة حياتي، وكل تفاصيل الأشياء داخل المكتب الإعلامي، لم أكن أعلم أن الكهف حماني، من شظايا براميل اخترقت جدران المكتب، ورَسمت لوحة شيطانية على جدران الغرف ومكان نومي.
لربما حماني الكهف من تشظي جسدي، أو بتر ساق لي، حماني الموت من الموت، قد تكون لنا حرية اختيار الموت، أو طريقته، والتفكر بالطريقة التي نموت فيها، أريد شظية تقتلني، أو طلقة لا أشعر بها، كل الذي أخشاه هو بتر ساقي، أو يدي، أو فقدان أحد عيناي، بفعل إحدى الشظايا أو الرصاص الذي يتراشق به المقاتلون على الجبهات.
الموت أمر حتمي لا بد منه، وانتظاره أمر قطعي، لكن الخوف انتقل لدي من الخوف من الموت إلى الخوف من الطريقة التي سأموت فيها، أو موت مؤجل كفقدان قدم أو يد أو عين.. اضطراب رافقني ويرافقني.
حلب – حي الحلوانيّة ٢٠١٤ قبيل الاعتقال بشهر
صفت سماء شرفة المكتب من المروحيات، عند الغروب، أنزل ليلاً إلى المحل القريب مني. أشتري عدداً من علب “الجاكيت”، أتخيلها تمرداً على الواقع وأرى فيها مشروب كحولياً، وفقاً لمعلومة قيلت لنا عن نسبة من الكحول الموجودة فيه، أشرب وأراقب من الشرفة، رادار مطار حلب الدولي، الذي لا تنقطع الكهرباء عنه.
إثر مزحة قلتها للبائع عن شربي لمشروب الطاقة والهدف منه، جلب لي مقاتل من الجيش الحر، مشروبات روحية، كان قد جلبها تهريباً، عن طريق إحدى نقاط الرباط المتداخلة في حي بستان الباشا، وكان قد دفع سعرها لأحد جنود النظام، مقابل جلبه عدة أوراق ثبوتية لمقاتل النظام، الكائن منزله في أحد الأحياء التي يسيطر عليها الجيش الحر. تودد مني، عن طريق البائع، مستذكراً عدداً من بطولاته العسكرية، وحصاره في إحدى المعارك في حي الصاخور بحلب، ومعركة السيطرة على مبنى الإطفائية، ونجاته بأعجوبة، عقب زحفه على بطنه فوق الرصاص وشظايا القذائف المبعثرة والساخنة على الأرض، لكن الحياة والخوف من الأسر أخطر بكثير من الزحف على تلك الشظايا.
يستهب بسرد الحوادث التي مر بها، وعن معارك خاضها في قرى شمال حلب ضد تنظيم داعش، قائلاً: الكل يخاف من محاربة التنظيم، لكنني لا أخاف بالعكس يوجد مساحة بينيا وبينهم، تسمح لي بالهروب، أو الاختباء، في حال هجموا علينا، وكما أنهم ليس لديهم طيران. كان يصمت قليلاً، ومن ثم يقول: لو كان لديهم طيراناً لقصفونا به!
كل القصص التي حَدّثَ البائع بها، وهو يدرك أنني أنصت له، كان البائع كعادته، مع زبائنه، لا يضيف أي تعليق، إلا عدداً من التسابيح، والأدعية التي تقيه خشية الاعتقال من الفصائل، أو الوشاية لـ”الأسد”، أو الوشاية لـ”داعش”، فالخوف قد استملكه من كل المتحاربين. ينهي تعليقاته، إذا ما شاركه أحد الحديث: الله يفرج على عباده.
المقاتل فتح الكيس الأسود الموجود على طرف مقود دراجته النارية، يطلب مني النظر، وتذكيري بعبارتي التي قلتها منذ عدة أيام للبائع، عن شربي المكثف لـ”الجاك”، وهنا، في الكيس لديه مشروب كحولي، مع ذكر قصة كيفية جلبه، والمساومة التي نجح بها، في المقايضة لجلب المشروب، يريد أن أشاركه الشرب في مكتبي، وأن أنسى شرب مشروب الطاقة، وألا أفكر بكيفية تحصيل مشروب كحولي.
وما كان كل كلامه وأكثر، ومقاسمته معي مشروبه الكحولي، الذي رفضته، وشكرته على خدمته، إلا ليطلب مني طلب واحد وهو…