عبد الناصر العايد
يوم أمس، في الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة الشعبية السورية ضد نظام آل الأسد، أُعلن عن رفع دعوة قضائية ضد ميليشيا “فاغنر” الروسية، أمام القضاء الروسي، لارتكابهم جريمة شنيعة بحق مواطن سوري بريء هو “حمادي الطه”.
كان لصحيفة “جسر”، الدور الأول في كشف هذه الجريمة البشعة وملابساتها، والدفع باتجاه محاسبة مرتكبيها، حيث عملت خلال السنتين الماضيتين على التحقيق في الجريمة وتواصلت مع الشهود ووصلتهم بالمؤسسات الحقوقية المعنية بملاحقة مجرمي الحرب، التي تمكنت في النهاية من الوصول إلى هذه النتيجة المهمة: محاكمة بوتين وجلاديه في قعر دارهم.
وكانت جسر قد نشرت تقارير خاصة عن القضية، استندت إليها فيما بعد صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية ومركز أبحاث “نيو أميركا” الأمريكي، كأرضية صلبة للتحقيق في القضية، كما نقلت عنها مجلة فورين بوليسي العالمية، تفاصيل هذه القضية. (للاطلاع على عيّنة من التقارير المذكورة اضغط هنا، وهنا، وهنا).
عقب ذلك، عملت “جسر” على إيصال جميع هذه النتائج إلى مختلف المنابر الإعلامية الدولية، إضافة إلى المؤسسات الحقوقية المعنية، وفي مقدمتها “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، الذي أكمل الطريق، مع الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، وتوليا الجانب الحقوقي الفعلي، الأهم والأعقد، وتمكنا بعد بذل جهود شاقة وطويلة، من رفع دعوى قضائية، ضد الجناة أمام قضاء بلادهم، في العاصمة الروسية موسكو.
ومن المنتظر أن يلقى هذا الإعلان موجة من الاهتمام العالمي، ومن المأمول أيضاً أن يكون له -إضافة إلى الملف الحقوقي المرافق- ارتدادات سياسية واسعة النطاق. كلها تصب نهاية المطاف في كشف الانتهاكات التي وقعت على الشعب السوري من أطراف عدة، فطريق المحاسبة شاق وطويل، لكن هذه القضية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن ثورة السوريين أفرزت مؤسسات إعلامية وحقوقية ذات نفس طويل، استطاعت عبر تعاونها وتعاضدها قطع أشواط طويلة نحو الحقيقة والعدالة التي يصبو إليها الشعب السوري.
“جسر” التي انطلقت سنة 2012، سارت على منهج حرصت على أن يكون النقيض المبدأي والمهني والأخلاقي لنظام آل الأسد المستبد ووسائل إعلامه الشوهاء. وبذل كل العاملين في “جسر” جهوداً جبارة لإبقائها على قيد الحياة، ومنبراً سورياً مستقلاً بكل ما يحمله هذا التوصيف من معنى.
خلال السنتين الأخيرتين، تعرضت “جسر” لهجمات عدة، بسبب استقلاليتها تلك، وعدم تبعيتها لأي جهة بالمطلق، وكان كادر الصحيفة في مواجهتها لوحده بطبيعة الحال، وهذا أمر أُدرك واستُعد له منذ زمن.
آخر تلك الهجمات تدور “رحاها” على صفحات التواصل الاجتماعي، يقودها للأسف بعض الناشطين الإعلاميين، ممن يجمعنا بهم خندق الثورة السورية. جاءت الهجمة على خلفية تقرير نشرته “جسر” حول علاقة “جيش الإسلام” باختطاف المدافعين عن حقوق الانسان، رزان زيتونة ورفاقها، ذُكر فيه أن قيادة الجيش عقدت اجتماعاً مع عدد من النشطاء الإعلاميين دعتهم فيه لترتيب حملة مناصرة لـ”مجدي نعمة”، القيادي والمتحدث السابق باسم “جيش الإسلام”، المعتقل في فرنسا.
مصادر: “رزان زيتونة” اختطفها “جيش الإسلام” بأمر من “ماهر الأسد” و”زهران” خضع للابتزاز
الحملة ضد “جسر” تجاهلت كل ما جاء في التحقيق وكل ما ورد بشأن “جيش الإسلام” ولم تتطرق إليه -خصوصاً أنه أورد تفاصيل بشأن جريمة اختطاف رزان بموجب صفقة بين الجيش وماهر الأسد- بل استندت الحملة فقط إلى نفي النشطاء حضورهم ذلك الاجتماع، كمقدمة لتقويض كل ما جاء به التحقيق فيما يخص الجريمة التي ارتكبها هذا الفصيل بحق “رزان زيتونة” ورفاقها وغيرهم من الضحايا. الحملة الغاضبة تناست أيضاً أن هذه الاجتماعات التي تدعو الفصائل إليها الناشطين الإعلاميين ليست حدثاً طارئاً أو جديداً، بل هو حدث تكرر كثيراً على مدى السنوات العشر الماضية برعاية فصائل مختلفة من جميع الألوان، وكل مشتغل في الحقل الإعلامي والصحفي يعرف ذلك، ويدرك أن هذه الاجتماعات لا تعني أن كل ناشط إعلامي يحضرها هو بالضرورة “مجنّد” لدى الفصيل صاحب الدعوة، بل أن هذه الاجتماعات هي وسيلة من وسائل فرض السلطة على الأرض، فهل من المطلوب أن ننفي بأن كل سلطات الأمر الواقع في سوريا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تعمل بشكل دوري على توجيه الإعلام وأدلجته ورسم خطوطه بما يتماشى مع مصالحها ورؤاها؟ أليس هذا النفي ينسف حتماً واقع المأساة التي تعيشها سوريا؟
والحقيقة أننا قلنا للناشطين الذين تواصلوا معنا، إننا نملك وثيقة حاسمة حول هذا الأمر، لكن نظراً لحساسية الأمر المتعلق بـ”جيش الإسلام”، وهو المتهم بكم كبير من الانتهاكات، فإننا لا نستطيع أن نعرضها سوى لقضاء يضمن حماية هذا الشاهد، وعرضنا عليهم الاحتكام للقضاء التركي، حيث تسيطر أنقرة على المنطقة التي يقطن فيها المحتجون، كما عرضنا عليهم المساعدة في توكيل محام إذا ما رغبوا، من أجل الوصول إلى الحقيقة وإنهاء هذا التشكيك واللغط، بنتائج قضائية حاسمة، فيما يخص موضوع احتجاجهم، وربما موضوعات أخرى من التي تطرق إليها التحقيق.
لكن النشطاء، ولأسباب غير مفهومة، عمدوا إلى شن حملة على الصحيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، تعمدوا فيها عن قصد، تجنب أي إشارة إلى دعوتنا لهم للتقاضي أمام قضاء مستقل، مع استعدادنا في حال إدانتنا لتقديم التعويض المناسب لهم، علماً أن ذكرنا لهم في التحقيق، اندرج ضمن فكرة أن الفصيل دعا لاجتماع وحضره بعض الأشخاص منهم فلان وفلان، ولو كان لصحيفة “جسر” مراسل في تلك المنطقة، ستوافق رئاسة التحرير دون شك على حضوره لهذا الاجتماع للاطلاع على ما يدور فيه، ونذكّر هنا بأن وسائل إعلام وصحفيين وناشطين التقوا مراراً بشخصيات جهادية راديكالية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، قناة الجزيرة ومراسلها تيسير علوني، وقناة العربية ومراسلها بكر عطياني، إضافة إلى أشهر الناشطين الإعلاميين في الثورة السورية وهو هادي العبد الله. ونؤكد في هذا المقام أن ذكرنا لأسماء الناشطين لا يحمل بأي شكل من الأشكال أي تهمة أو إساءة لهم. وتنبع خشيتنا اليوم، من أن يكون “جيش الاسلام” ذاته وراء هذه الحملة، فهو -ومع أنه المعني الاساسي بما ورد في التحقيق- لم يصدر عنه أي تعليق، وهو يعلم حق العلم ما ينتظره فيما لو لجأ حتى إلى محاكم الدولة التركية التي تحتضنه، وربما وجد في هؤلاء النشطاء، دريئة مناسبة وسهلة، للتصويب على الصحيفة، وتقويض مصداقيتها وصحة المعلومات التي عرضتها، وقد يكون هو أيضاً وراء رفض النشطاء فكرة اللجوء إلى القضاء، رغم كل التسهيلات التي قدمناها، لأنها يدرك أنها ستقود إليه وإلى قادته في نهاية المطاف.
تعيدنا هذه القصة إلى عنوان هذه المقالة، وهي كون الصحافة الحرة هبة الثورة السورية، وهي حقاً كذلك، إذا ما استمر القائمون على المنابر الإعلامية في نضالهم للتأسيس للصحافة الحرة في سوريا المنتظرة، فالإعلام الحر هو السند الأهم، والرافع الأول، للحريات العامة بكل أشكالها، إلا أن هذه الهبة وجميع المحظوظين بالحصول عليها، يجب أن يدركوا وأن يكونوا مستعدين لمحاولة الاغتيال المعنوي والمادي، ومن مختلف الأطراف، فليست “فاغنر” أو “نظام الأسد” أو “جيش الإسلام” أو “قسد” أو “هيئة تحرير الشام” هي الجهات الوحيدة التي لاحقت إعلاميين حققوا في انتهاكاتها، بل يمكن أن تأتي الطعنات من أبناء القضية، ومن أشخاص تصدوا للعمل الإعلامي لكن بعقلية منغلقة قد تبتعد كثيراً في بعض الأحيان، عن الإعلام الحر وتقاليده ومقتضياته، نصرة للذات أو المصلحة، أو نصرة للأيديولوجيا، أكثر مما هو نصرة للحق والحقيقة.
المرض الأشد ضرراً الذي أُصيب به إعلام الثورة خلال السنوات العشر الماضية، هو اعتماده على نهج “ما يحب الناس معرفته”، وليس على نهج “ما يجب على الناس معرفته”، وإن اتفقنا على أن مهمة الإعلام الحر الأولى -في كل زمان ومكان- هي رفع سوية الوعي وكشف الحقائق، فسنتفق حتماً على أن نهج “ما يطلبه الجمهور” ومحاربة “ما لا يطلبه الجمهور”، لن يدفع بمجتمعنا إلى الأمام حكماً.