ماذا وراء عودة فرنسا إلى سوريا؟

شارك

محمد سبسبي

لسنوات عديدة خلتْ، كان تأثّر أوروبا، وبينها فرنسا، بتداعيات الحدث السوري الكبير يفوق تأثيرها فيه. فبالرغم من تدفّق موجات كبيرة من اللاجئين نحو أراضيها، ثم استهدافها بهجمات إرهابية متعددة، لم تلجأ إلى حسم الملف على الطريقة الليبية، واكتفت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام البائد وفرضِ سلسلة من العقوبات، ثم دعمِ المعارضة السياسية.

لكنّ ذلك لم يفلح في ترجيح كفّة الأخيرة، ولم يوصل إلى حل سياسي ينهي الصراع، وهو ما جعلها تيأس وتنكفئ عن التعاطي مع مثل هذا الملف المستعصي، حتى إنّ الرئيس الفرنسي ماكرون صرّحَ بعد وصوله إلى الإليزيه عام 2017 بأنّه لا يرى بديلاً شرعياً للأسد، وأنّ الأخير عدو للشعب السوري وليس لفرنسا.

عودة سريعة من بعيد

لم تكدْ تمضي سوى عشرة أيام على هروب بشار الأسد وسقوط نظامه، حتى سارعتْ فرنسا إلى إرسال وفد دبلوماسي إلى دمشق للقاء “سلطات الأمر الواقع”، وفقاً لتعبير المبعوث الفرنسي، بهدف “التشديد على رغبة فرنسا في الوقوف إلى جانب الشعب السوري”.

سماعُ الوفد ما كان ينتظره من الإدارة الانتقالية دفعَ إلى رفعِ مستوى التواصل معها، فجاءت زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو رفقةَ نظيرته الألمانية بعد أسبوعين فقط من الزيارة الأولى، لتكون أولَ زيارة لمسؤول غربي رفيع المستوى إلى سوريا. تبع ذلك بأيام إعلانُ باريس عن عزمها استضافة مؤتمرٍ دولي بشأن سوريا، ليأتي اتصالُ ماكرون بالشرع ودعوته لزيارة فرنسا تتويجاً للانفتاح الفرنسي المتسارع على دمشق، بغيةَ حجز مكان في الساحة السورية، وهو ما يعبّد الطريق أمامها لإعادة تفعيل الحضور الفرنسي التاريخي في الإقليم.

ويبدو أنّ تطلّعات فرنسا في سوريا لا تقتصر على تلك التي ردّدها الإعلام الفرنسي خلال الأسابيع الماضية، والمتمثلة في استقرار الوضع في سوريا عبر عملية انتقالية شاملة، وضرورة الاستمرار في مكافحة الإرهاب، ومعالجة ملف الجهاديين الفرنسيين في شمال شرقي سوريا.

مؤتمر باريس

بحضور وزير الخارجية أسعد الشيباني، قدّمتْ فرنسا السلطةَ الانتقالية السورية إلى الغرب في مؤتمر باريس المنعقد قبل أيام، وفعلتْ ما بوسعها لجلب اعتراف غربي مهمّ لكنّه غيرُ مكتمل، فالولايات المتحدة امتنعت عن التوقيع على البيان الختامي، مدفوعةً برغبة عدمِ التسرّع بمنح الاعتراف وبانتظار صياغةِ سياسةٍ واضحة من قبل ساسة أميركيين أقرّ بعضُهم بأنّ الواقع الجديد في سوريا وضعهم أمام “معضلة”.

وبينما غاب أيّ ذكرٍ لقسد في البيان الختامي للمؤتمر، إلا أنه حضرَ بحديث ماكرون ووزير خارجيته، اللذَين أشادا بدورها “كحليف لفرنسا في محاربة الإرهاب”.

لا تخفي باريس اهتمامها المتزايد في لعب دور الوسيط بين دمشق وحليفها “القسدي” لجسْر الهوة بين الطرفين، بغيةَ التوصل لتفاهمات سياسية وأمنية تجنّب الانزلاق نحو صراع جديد ستكون له تداعيات مكلفة.

لأنها تتطلع إلى ضمان وجود نفوذٍ في رسم مستقبل البلاد عبر تحويل مكتسبات الحليف إلى واقع مؤثّر على الأرض، من خلال إدماجه في مؤسسة الجيش ومنظومة الحكومة في الدولة الجديدة، وهو ما يوفّر لباريس نقاطَ قوة تُضاف إلى رصيدها في مواجهة أية سلطة سورية تعارض مصالحها في المستقبل. كما يمنحها أداةَ ضغط أخرى تستخدمها في مواجهة تصاعد النفوذ التركي المنافس لمصالح فرنسية محتملة في البلاد.

موازنة الدور التركي

لم يرقْ لدول غربية، ومنها فرنسا، أنْ تجني تركيا بعد تورّطها في الصراع السوري الطويل كل هذه المكتسبات، وأنْ تخرج في نهايته من أكبر المستفيدين في المنطقة. وكان لا بدّ لباريس من التحرك من أجل الحدّ من حصد أنقرة المزيدَ من الثمار ومحاولةِ تحجيم أو موازنة الدور التركي.

وبدا واضحاً أنّ أحد الأهداف غير المعلنة لمؤتمر باريس هو الوقوف في وجه تصاعد دور تركيا ودول أخرى، ومحاولات تفرّدها في ترتيبات مستقبل سوريا، وهي الإشارة التي التقطتْها تركيا وتعمّدت خفض تمثيلها الدبلوماسي في المؤتمر، فغاب وزير خارجيتها وحضر أحد نوّابه.

كذلك تُشكّل مسألة رفعِ العقوبات الأوروبية ورقةً أخرى في يد فرنسا يمكن أن تواجه بها الدور التركي وتحدّ من طموحاته، وقد لمّحت في أكثر من مناسبة إلى أنّ ثمة الكثير لفعله أمام الإدارة الانتقالية، والتي هي “تحت المجهر” بطبيعة الحال، من أجل رفع العقوبات بشكل كامل.

وهو ما ترغب به تركيا أيضاً إلى جانب سوريا، ليتسنّى لها قضمُ المزيد من الكعكة السورية قبل مزاحمتها من قِبل أطرافٍ أخرى.

ومن المفيد ألّا نتجاهل، ونحن نتحدث عن صراع محتمل في النفوذ، أنّ كون فرنسا عضواً دائماً في مجلس الأمن يمنحها ميزة إضافية قد تلجأ إليها في وقت لاحق إذا ما شعرت أنّ ثمة ما يقف في وجه مصالحها.

فقد تعمد إلى اقتراح تعديلاتٍ على القرار 2254 ليخرج بحلّة جديدة تُفرض كخريطة طريق أممية واجبة التنفيذ في سوريا، وهو خيار ما زال مستبعداً إلى الآن.

توفّر هذه الملفات المتداخلة في سوريا وغيرها أوراقَ تفاوض مهمّة لفرنسا، ربما تدفع بها لمساومة تركيا التي بدأتْ تزاحمها مؤخراً في الساحل الإفريقي.

تبقى الإشارة إلى أنّ باريس لا تستطيع أن تتحرك بمفردها في نهاية المطاف، وهي وإنْ كانت تسعى لمحاولة ملء الفراغ، العسكري والسياسي، الذي يمكن أنْ يتركه الانسحاب الأميركي من شمال شرقي البلاد، إلا أنّها ما زالت بانتظار ما ستتكشّف عنه السياسيةُ الأمريكية تجاه سوريا، والتي يصعب تلمّس ملامحها بدقّة قبل أنْ تُفصح عنها إدارة ترمب.

المصدر: تلفزيون سوريا

شارك