قراءة في رواية “أنا فريدة” لفاتن حداد

شارك

جسر – ثقافة

رواية: “أنا فريدة”
فاتن حداد
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

مع بداية الحرب في سورية، ينفرط عقد عائلة فريدة، منهم من بقي في دمشق، أو لجأ إلى ألمانيا، أو وجد عملا في بلد خليجي، وهو ما كان حظ فريدة، التي أصيبت بمرض سرطان الثدي. عندئذ تبدأ رحلتها مع المرض، إلى جانب رحلتها في الوظيفة، بعيدا عن الوطن.

تكتب فريدة دقائق تدرج حالتها المرضية نحو الشفاء، خطوة بخطوة، وما تقاسيه في كل مرحلة من توقعات وأوهام واحباطات، تبددها عزيمة ولو كانت مثقلة بالماضي، ومعاناة الحاضر، وأجواء في الوظيفة مشبعة بعبثية العمل الروتيني، وكأنه المكافئ لحياة تمضي إلى آفاق مظلمة، بين الانسداد والانفراج، تتآزر مع مرض مجهول متخم بمفاجآت مقبضة لا تخلو من لمسات سارة، تترجح بين ارتفاع وانخفاض.

ما يمنح لهذه السردية القلقة امتيازها، ذلك المزيج من الحزن والحيرة والطرافة والسخرية السوداء وتلك البهجة المثيرة للأمل والحب والتعاطف، تستعيد فيها دفء العائلة وحكاياتها، ودمشق البعيدة واسواقها الظليلة.

أسلوبية متميزة في رواية تبتكر وسائلها في التعبير بشكل مختلف تتبدى في حميمية الألم، والاحساس بالمفارقة، والروح التهكمية عبر مشاهد تتكرر بإيقاع لافت ومثير.

الفصل الأول: أتميز بأنني غير مميزة

اسمي فريدة، لكنني لم آخذ من الفرادة سوى الاسم، حتى هذا التوصيف لا يعتبر دقيقا كوني ورثت الاسم عن جدتي، وبالتالي هناك شخصان حملا الاسم ذاته في العائلة، لذا أظنني لم آخذ من اسمي شيئا.

لنبدأ من جديد: اسمي فريدة، ولم آخذ من الفرادة لا الاسم ولا المعنى.

أما فرادة الشكل .. فأعتقد أنني أخذت قسطا لا بأس به منه .. فكل الجينات الفريدة الموجودة لدى أجدادي والتي ظننا أنها اندثرت معهم، كنت أنا الوعاء الذي جمعها كلها .. فأصبحت الوحيدة في عائلة والدايّ التي تمتلك شعرا مجعدا أسود اللون ذو حجم كبير وعينين سوداوين واسعتين وفم ممتلئ، مقارنة بباقي العائلة ذوي الألوان الفاتحة والشعر المسترسل والملامح الناعمة. لا أعلم إذا ما كان ذلك يجعلني فريدة أم غريبة باعتبار أن من يراني يستغرب أنني أنتمي لهذه العائلة.

تبدو بداية غير مشجعة، صحيح؟

لكنني اكتشفت مؤخرا بأنه ليس عيباً ألا يكون أحدنا مميزاً شأنه شأن المليارات من الناس، على الرغم من أني اضطررت لترك بلدي (سوريا) عام 2014 بعد أن خسرت كل شي هناك، لكن لا أعتقد أن ذلك أيضا سيجعلني فريدة… فهناك الملايين من السوريين الذين مروا بما مررت به، وربما أكثر.

حتى تجربتي مع سرطان الثدي، صاحب السمعة السيئة حول العالم، لم يجعلني فريدة لأنه يصيب: واحدة من كل ثماني نساء. وكانت هذه المرة من نصيب “شخص عادي” أو يحاول أن يظل عاديا في ظل هذا التوجه العام نحو التفوق، فبالتالي أصبحت الوحيدة، أو من القلة، الذين يحاولون أن يظلوا عاديين.

وبغض النظر عن أنني حاولت ألا أقع في فخ السعي للتفوق بالرغم من ارتباطه بإمكانية جعلي مرئية بالنسبة للآخرين، إلا أنني سقطت في فخ “الاستصغار”.. استصغار نفسي وبأنني “لا أستحق” أدوار البطولة حتى في حياتي، ربما يعود الأمر إلى مقارنتي المستمرة بالآخرين وتكريس ذلك في داخلي منذ الطفولة، وبأن كل ما أقوم به أو أعانيه ليس كافيا لهذا الاستحقاق، مع توافر مبررات تغدق علي دائما حتى لا أشعر بتميزي، مع أن الغرض منها أحيانا هو التخفيف عني أو حتى تشجيعي.

لتقليل الفوضى السابقة سأعطي أمثلة للتوضيح، ولتكن مرتبطة بسرطان الثدي:

“الحمد لله أنك مصابة بهذا النوع من السرطان وليس غيره .. فأنت لن تحسي بالألم، صحيح؟!”
“من الجيد أنك لا تتلقين العلاج في سوريا .. أنت محظوظة”
“مممم سرطان من الدرجة الثانية.. نسبة الشفاء عالية جدا .. تتجاوز ال90%.. فلا داعي للقلق”
وأحيانا يضطر من حولي لابتكار قصص مرعبة فقط من أجل إشعاري بالراحة أو السعادة بأنني لم أصل لتلك المرحلة من المعاناة، لا أدري كيف يمكن ذلك وأنا أسمع…
– قريبتي متزوجة ولديها أطفال صغار اكتشفت أن لديها سرطان الثدي، استأصلوا ثدييها بالكامل، وعندما علم زوجها طردها من المنزل وحرمها من أطفالها، وتزوج عليها. احمدي الله، فأنت لم تتزوجي أو تنجبي أطفالا ولم تتعرفي على يعقوب ذلك الشخص السافل الوضيع صاحب الشخصية المهزوزة.
– أليس يعقوب هو حبيبك السابق؟!
– حسنا فريدة لا تركزي على التفاصيل غير المهمة .. أنت تعرفين أن هناك الكثير من هؤلاء الرجال الذين يتركون زوجاتهم أو حبيباتهم يعانون بدل الوقوف إلى جانبهم في محنهم.
كما لم تشفع لي سمعة السرطان السيئة ولا معاناتي منه طوال أكثر من عام والندبات الكثيرة التي تركها علي في أن أحظى ببعض التميز.

“لا تحزني، إذا لم يعد باستطاعتك الإنجاب.. ما الذي تريدينه من الأطفال أنت في نعمة كبيرة … إنجاب الأطفال مكلف وصعب جدا في هذا الزمان.. أترين رضيعي هذا .. لا تنظري إليه.. (ثم تهمس لي).. أحيانا أحس وكأنه يتعمد استفزازي.. في كل مرة أغير له حفاضه يتقصد أن يتغوط فيه مباشرة حتى قبل أن أكمل تزرير ملابسه.. أتعلمين كم تكلفني الحفاضات فقط”.

“هل تظنين بأن الطبيب عندما يقطع الحبل السري أثناء الولادة سينفصل أطفالك عنك .. سيظلون ملتصقين بك حتى يدفنوك تحت التراب، هذا إذا لم يكونوا هم السبب الرئيس في وصولك إلى القبر.. انظري إليهم، أولادي هؤلاء أدوات تعذيب وليسو أولاد”
“البارحة ابني كان يحاول إقناع أخته أن يُدخل قطعة الشوكولا في أذنها.. لتصل إلى دماغها، ما سيجعلها أكبر، وبعدها سيخرجها من أذنها الثانية.. كل هذا لأنني تكلمت معه بأن أي شيء يفكر فيه ويضعه في رأسه سيحققه.. كنت أقصد الطموح.. هناك احتمالين إما أن يصبح ابني عالما في المستقبل أو مجرما .. وأنا أميل للاحتمال الثاني”.

بغض النظر إن كانت القصص التي تليت على مسامعي والنصائح التي أتحفت بها طوال فترة علاجي حقيقية أم لا، وبغض النظر عن النيات الطيبة من كل هذه الثرثرة، لكن هذا النوع من المواساة كان يسلبني تدريجيا انتصاراتي .. لأنه وبكل بساطة هناك أشخاص آخرون عانوا أكثر مني، وحققوا نجاحات من الصعب التغاضي عنها، لأجد نفسي فجأة “كومبارس” غير ناطق في فيلم من بطولة أحدهم ذلك الذي عانى كثيرا.

المهم قررت أن أكون بطلة قصتي، ربما لن تكون كقصص مارفل، لكنها ستكون مليئة بالمعلومات على شاكلة المعلومة التي حشرتها عن نسبة النساء المصابات بسرطان الثدي، والمواقف الحزينة رغبة مني في تلقي التقدير والتصفيق، بالإضافة إلى بعض المواقف السعيدة.

في الواقع، لا يمكن وصفها بالسعيدة، من سيكون سعيدا خلال علاجه من السرطان. لكن الطبيب أخبرني بأن 70% من نجاح العلاج مرتبط بالحالة النفسية، لذا قررت مواجهة المرض بابتسامة. في البداية كانت ابتسامتي مرعبة، ربما لأنها كانت مصطنعة نوعا ما، وترافقت مع صدور فيلم Smile المرعب جدا، مع أنني لم أشاهد سوى المقطع الترويجي له “التريلير” لكنني أظن أنه كاف لإخافة أي شخص من ابتسام أحدهم في وجهه. المهم أنني استطعت التغلب على قسوة المرض، سواء كان بابتسامة متشائمة أو متفائلة أو مصطنعة أو حتى مرعبة، والدليل أنني كتبت هذا الكتاب.

شارك