جسر – عبد الله الحمد
يعتبر الأذان الجماعي عادة دمشقيّة دينية يتميز بها الجامع الأموي عن سائر المساجد في العالم الإسلامي، وحفرت هذه الأنغام في عمق الوجدان المجتمعي السوري، خصوصاً في شهر رمضان المبارك، كون إفطارهم ارتبط به لعقود طويلة وما يزال.
يجتمّع ستة مؤذنين أمام مكبر للصوت داخل غرفة صغيرة في الجامع الأموي الكبير بدمشق، وما إن يحين موعد الصلاة حتى تصدح حناجرهم جماعياً بالأذان، إحياءً لتقليد متوارث وفريد من نوعه.
نشأة الأذان الجماعيّ في جامع بني أميّة
ينسب العديد من الباحثين والكُتّاب نشأة الأذان الجماعي وإطلاقه في جامع بني أمية إلى الشيخ الشامي عبد الغني النابلسي المتوفّى سنة 1731م، غير أن نسبة إنشاء الأذان الجماعي إلى الشيخ عبد الغني النابلسي هي نسبة غير دقيقة، فالأذان الجماعي موجود قبله، لكن ما قام به الشيخ النابلسي هو إضفاء نظام إداري وضوابط فنيّة على الأذان الجماعي، فهو الذي ألزم المؤذِّنين بالتزام مقام موسيقي للأذان الجماعي في كل يوم مختلف عن الآخر، فلكل يوم من أيام الأسبوع مقامه الموسيقي الخاص الذي يؤَذّن به الأذان الجماعي.
وقد أخذ الشيخ النابلسي هذه الفكرة من قانون الأذان العثماني، الذي يلزم المؤذنين أن يكون كل أذان لواحد من الأوقات الخمسة بمقام موسيقي محدّد مختلف عن الآخر، وذلك ليعرف المكفوفون أوقات الأذان ونوع الصلاة التي يُؤذَّن لها، غير أن الشيخ عبد الغني النابلسي جعل المقام الموسيقي لكل يوم مختلفًا عن اليوم الآخر ليتمايز المستمعون بين أيام الأسبوع من خلال المقامات الموسيقية للأذان.
الفرق بين “الأذان الجماعي” و”أذان الجُوق”
يقع كثير من الإعلاميين والباحثين في خلط كبير تتبنّاه أقلام كُتّاب كثر، وينتشر في الكثير من المواقع الإلكترونية، وهذا الخلط هو إطلاق وصف “أذان الجوق” على “الأذان الجماعي” الذي يتم أداؤه في الجامع الأموي بدمشق، وهنا يتوجّب التفريق بين المفهومين، لأن الخلط بينهما له أبعاد تاريخيّة وأبعاد شرعيّة أيضًا.
أما “أذان الجوق” أو ما بات يُعرف بعد ذلك بـ “الأذان السلطاني”، فقد بدأ العمل به من عهد الأمويين كما ذكر السيوطي وابن عساكر وغيرهما، وتحديداً من عهد هشام بن عبد الملك.
و”أذان الجوق” أو “الأذان السلطاني” لا يقوم على فكرة أن يقوم المؤذن بذكر العبارة ثم تقوم جوقة بإعادتها وراءه كما يظن كثيرون، وقادهم هذا إلى توهّم أن الأذان الجماعي في الجامع الأموي هو ذاته أذان الجوق.
كما أن “أذان الجوق” يقوم على فكرة أن يقوم أربعة أو خمسة مؤذّنين بأداء أذان واحد بحيث يؤدي كل واحد منهم جزء من الأذان، فيقول الأول مثلًا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فيقول الثاني: أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، ويتابع الثالث العبارة التي تليها ثم الرابع وهكذا، فيلقي كل واحد منهم جزءًا من الأذان فقط، فكل واحد من المؤذنين يقول عبارة واحدة من الأذان ليس أكثر، فلا يؤذّن أي مؤذّنٍ الأذان كاملًا بمفرده.
وهذا الأذان بقي مستمراً في عدد من البلدان الإسلامية إلى وقت متأخر، ومُنع في بعضها في أوقات مبكّرة، وكانت آخر البلاد التي مُنع فيها “أذان الجوق” هي مصر في عهد الملك فاروق الأول.
أما الأذان الجماعي فهو أن يقوم المؤذن بذكر العبارة من الأذان وتقوم مجموعة من ورائه بإعادتها وترديدها، بحيث يؤذّن كل واحد منهم الأذان كاملاً وليس جزءاً من الأذان، وقد كان هذا الأذان موجوداً من بدايات العصر العثماني في إسطنبول ثم انتشر إلى عدد من المساجد الكبرى، فكان يؤدّى في المسجد الحرام والمسجد النبوي كما كان يؤدّى في الجامع الأموي في دمشق، وتوقّف في عموم المساجد والبلدان غير أنه بقي مستمرًّا في جامع بني أميّة بدمشق.
ما يزال الأذان الجماعي يصدح من مآذن جامع بني أميّة الكبير فيثير في القلوب حنيناً، تهيّجها الأصوات التي صاغت الكثير من ذكرياتها، ويبقى هذا الأذان في شهر رمضان الفضيل أحد أهم ما يحرصون على سماعه واستحضاره، إحياءً لتقليد متوارث وفريد من نوعه جعل منه أيقونة روحية لدى السوريين عموماً والدمشقيين خاصة.