الطائرات المسيرة الانتحارية.. تطوير وتجريب على أجساد السوريين

شارك

المزارع سليمان الحسين يتفقد الأضرار التي لحقت بسيارته بعد استهدافها بطائرة مسيرة انتحارية (FPV) في بلدة قسطون بريف حماة الغربي، 06/ 08/ 2024، (مصعب الياسين)

جسر – مصعب الياسين – بشار فارس

أُنتج هذا التحقيق بتاريخ 18 تشرين الأول\أكتوبر 2024 على أن يتم نشره في كانون الأول\ديسمبر 2024 بيد أن النشر تأخر بسبب تحرير سوريا وسقوط نظام الأسد.

لم يعد هناك من يزرع الأرض ويفرح بحصادها بعد اليوم “كل شيء ذهب بثانية واحدة، حملت معها ألماً لن يزول على مرّ السنوات”، على حد قول سالم، الابن الأكبر لعلي بركات، الذي قتل بمسيرة انتحارية استهدفته أثناء حراثة أرضه في قرية كفر نوران بريف حلب الغربي، التابعة لسيطرة هيئة تحرير الشام.

بينما يقلب سالم، البالغ 15 عاماً، صور والده على هاتفه المحمول وعلامات الحزن بادية على وجهه، قال: “لم يكن مجرد أب، وإنما صديق لنا يفيض رفقاً وحناناً”، مستذكراً لحظات السعادة التي كانت تغمر إخوته الصغار عند دخول والده إلى المنزل.

في 11 آذار/ مارس 2024، كان بركات يحصد أرضه عندما استهدفته “مسيرة انتحارية” وقذفته “على مسافة أكثر من عشرين متراً”، ما أدى إلى مقتله وتدمير جراره، بحسب ابنه، الذي صار منذ تلك اللحظة معيلاً لعائلة مكونة من ستة أشخاص وحاملاً هم تأمين احتياجاتهم الشهرية.

وثق فريق “منسقو استجابة سوريا”، 256 عملية استهداف بالطائرات المسيرة، منذ مطلع العام الحالي حتى 25 تشرين الأول/ أكتوبر، ما أدى إلى مقتل 34 مدنياً وإصابة 88 آخرين بجروح، بينهم نساء وأطفال

يسلط هذا التحقيق الضوء على تطوير النظام السوري والميليشيات التابعة له الطائرات المسيرة (الدرون)، وتحويلها إلى “انتحارية” محملة بقذائف حربية، ومن ثم تجريبها على المدنيين في مناطق المعارضة شمال غرب سوريا، لا سيما المزارعين منهم القريبين من خطوط التماس، في نهج متصاعد منذ مطلع عام 2024.

ويعتمد التحقيق على شهادات ناجين من هجمات الطائرات المسيرة أو ذوي الضحايا الذين قضوا فيها، وآراء خبراء عسكريين، وتحليل آلية صنع هذه الطائرات ومراحل تطويرها والجهات المسؤولة عن ذلك، بالاعتماد على المصادر المفتوحة.

لماذا هذا السلاح!؟

اعتمدت قوات النظام والميليشيات التابعة لها على “المسيرات الانتحارية” في هجماتها ضد المدنيين بمناطق سيطرة المعارضة وهيئة تحرير الشام، شمال غرب سوريا، كبديل “أقل تكلفة” من السلاح التقليدي، من قبيل: قذائف المدفعية والدبابات.

“يصل ثمن قذيفة مدفعية الفوزديكا إلى ثلاثة آلاف دولار أميركي، بينما تقدر تكلفة شراء وتطوير الطائرة المسيرة بنحو 350 دولار”، ناهيك عن قدرتها على “ملاحقة الهدف وتحقيق إصابة مباشرة، نظراً لاعتمادها على التوجيه اللاسلكي، والصورة الدقيقة التي تغطي رؤية واضحة لمشغّل الطائرة”، كما أوضح ماهر الأحمد، الخبير العسكري والعامل في صفوف الجيش الوطني السوري (المعارض).

طائرات (FPV) وهي اختصار لـ(First Person View)، هي ذات رؤية من منظور الشخص الأول، أي أن مشغّل الطائرة يرى كل ما يمكن أن تراه كاميرا الطائرة من دون طيار كأنه داخلها، وتعود صناعتها إلى شركة  (DJI) الصينية، منذ عام 2013، وهي مخصصة لهواة التصوير وتستخدم في تتبع المسابقات الرياضية وفي ألعاب الفيديو للصغار للكبار، ولا تحتوي على طيار آلي، وتعمل من دون نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، بحسب المنتدى العربي للدفاع والتسليح، وهو موقع غير رسمي، يديره مجموعة من الأكاديميين والاختصاصيين بهدف نشر ثقافة الفكر العسكري.

وتعتمد “المسيرات الانتحارية” في تحديد أهدافها وتنفيذ هجماتها على طائرات أخرى من دون طيار، مهمتها الرصد والاستطلاع، من نوع أورلان 10، وهي روسية الصنع، وتستخدم للبحث والاستطلاع وتعديل إطلاق النار، من خلال ما ترسله لغرف العمليات، بحيث يتم تحديد الأهداف التي يجب على “المسيرات” مهاجمتها، إضافة إلى أنه توثيق الهجوم.

تدمير سبل العيش

في خريف 2023، تمكن حسن الصياد من العودة إلى أرضه في بلدة الزيارة بسهل الغاب، في ريف حماة الغربي، الواقعة تحت سيطرة المعارضة والقريبة من خط التماس، بعد أربعة سنوات على فراره منها بسبب قصف النظام وحلفائه على البلدة، وفور عودته زرع أرضه قمحاً، واستمر في التردد إليها لتفقد مزروعاته.

وفي مطلع عام 2024، ذهب الصياد رفقة أطفاله لتعشيب أرضه (إزالة الأعشاب الضارة)، وكانت علامات الفرح بادية على وجوههم، لكنهم تعرضوا لهجوم بـ”مسيرة انتحارية” مصدرها قوات النظام في معسكر جورين، ما أدى إلى إصابته مع أطفاله بجروح متفاوتة الخطورة، كما قال شقيقه، وهي أول عملية للمسيرات الانتحارية ضد هدف مدني في شمال غرب سوريا، بحسب رصد فريق إعداد التحقيق. 

يبعد معسكر جورين أربعة كيلومترات عن بلدة الزيارة، وتتخذه قوات النظام وحلفائها مقراً لعملياتها البرية، ومربضعاً للمدفعية والدبابات، إضافة إلى أنه نقطة تحكم للطائرات المسيرة الانتحارية والتقليدية.

أعادت قوات النظام استخدام “المسيرات الانتحارية” بمدى أبعد من سبعة كيلومترات، عندما استهدفت بلدة قسطون بمنطقة سهل الغاب في ريف حماة الغربي، حينها دمرت “المسيرات” ثلاث سيارات، منها سيارة حسين القرقوري، أحد مزارعي البلدة المعروفين.

في 22 شباط/ فبراير 2024، كان القرقوري مع عماله في الأرض عندما سمعوا هدير طائرة في الأجواء، فطلب من المزارعين الانبطاح في الأرض “وما هي إلا ثوانٍ معدودة، حتى دخلت طائرة مسيرة محملة بقذيفة متفجرة من نافذة السيارة وانفجرت داخلها”، كما قال.

منذ ذلك اليوم لا يأمن القرقوري ذهاب أبنائه إلى أرضه والعمل بها، خشية تكرار الحادثة، التي لا ينساها، قائلاً: “لا يفارق مخيلتي كيف كان الموت قريباً مني رغم أني مجرد مزارع متشبثٌ بأرضه لجني خيراتها”، ولكن “لم أعد أكترث بالأرض خوفاً من الاستهداف، ما أدى إلى تضررها بسبب غيابي”، على حد قوله.

“زرعنا أرضنا بالقمح والعدس والبرسيم وأصنافاً من الخضروات بعد أن عدنا إليها”، وربما “يتعمد النظام تهجيرنا منها مرة أخرى ويجبرنا على الهروب إلى المخيمات حيث الحياة التعيسة”، أضاف القرقوري.

بث حساب على موقع × (تويتر سابقاً) ينشر لصالح القوات الروسية تغريدة مرفقة بفيديو، زعم أنه يوثق لحظة استهداف النظام لـ”إرهابيين” في إدلب بواسطة طائرة FPV المسيرة، لكن بحسب شهادات حصل عليها معدّو التحقيق، فإن الأهداف المستهدفة في منطقة سهل الغاب بريف حماة الغربي، وهي أهداف مدنية، من بينها سيارة القرقوري.

بعد إخضاع الفيديو لعملية تحليل ومطابقة من عدة مصادر وأدوات تحقق منها InVID-WeVerify   وخرائط جوجل وجولة خاصة لكاميرات فريق التحقيق في المكان المستهدف تبين أن الفيديو حقيقي، وصحة ما ذهب إليه فريق التحقيق، ما يعني أن النظام وثق عملية قصف المدنيين بنفسه مدعياً أنهم “إرهابيين”.

لقطتان من الفيديو المنشور على منصة × (تويتر سابقاً) تظهران استهداف سيارة حسين القرقوري بمسيرة انتحارية FPV في بلدة قسطون بريف حماة الغربي.

في المقابل، حدّد معدو التحقيق أثناء زيارة ميدانية لمكان استهداف القرقوري إحداثيات المكان، وهي تتطابق مع الفيديو المنشور لإعلام النظام وروسيا.

https://www.google.com/url?q=https://drive.google.com/file/d/191Mh4vkEvajubjO4R9779rWgiba5YJLQ/view?usp%3Ddrive_link4&sa=D&source=docs&ust=1736845082640698&usg=AOvVaw1GLrCY2_dBsLHDNY8MJacN

وفي حادثة أخرى، دُمرت سيارة حسين بركات، المحملة بالإكسسوارات النسائية، وخسر ما بداخلها، جراء استهدافها بـ”مسيرة انتحارية” في العاشر من تموز/ يوليو، في قرية فركيا بجبل الزاوية، جنوب إدلب.

تمثل سيارة بركات، الذي يعمل في مجال توزيع الإكسسوارات، مصدر رزقه الوحيد، الذي يؤمن مصاريف عائلته، المؤلفة من ستة أفراد، وبفقدانها خسر مصدر رزقه ولم يعد بإمكانه سد رمق عائلته.

وثّقت كاميرات مراقبة في قرية فركيا لحظة انفجار سيارة بركات، وتبين لاحقاً أن سبب الانفجار استهدافها بمسيرة من طراز FPV، التي يستخدمها النظام في هجماته ضد المدنيين.

عمل النظام وحلفاؤه على استخدام عدة طائرات في كل هجمة بـ”المسيرات”، ويحاول شن الهجمات بأوقات زمنية مختلفة مع التركيز على منطقة واحدة، بالتزامن مع تحليق طائرات استطلاع روسية، ما يشير إلى محاولة النظام وحلفائه توثيق هذه الهجمات ومراقبة عمل الطائرات المسيرة لمعرفة قدرتها التدميرية وخط سيرها الزمني والجغرافي، بحسب الخبير العسكري والضابط المنشق عامر الهواد.

تؤكد العديد من الهجمات بـ”المسيرات الانتحارية” وجهة نظر الهواد، كما هو الحال في مدينة دارة عزة بريف حلب الغربي، عندما استهدفت مسيرتان عائلة محمد قنواتي، النازح من مدينة حلب، في 16 نيسان/ أبريل 2024، ما أدى إلى إصابة الأب والأم وطفليهما إصابات بالغة.

الهجوم على عائلة قنواتي كان ضمن هجوم بخمس طائرات مسيرة انتحارية، اثنتان استهدفتا سيارة قنواتي، بينما استهدفت ثلاث مسيرات سوق المدينة دون أن تتسبب بوقوع إصابات في صفوف المدنيين.

وأيضاً، تعرضت بلدة النيرب بريف إدلب الشرقي، لهجوم بسبع طائرات مسيرة انتحارية دفعة واحدة، في التاسع من تموز، يوليو 2024، استهدفت مركبات وآليات زراعية لمدنيين، بالتزامن مع عمل المزارعين في بساتين التين والزيتون.

وثقت إحدى كاميرات المراقبة في البلدة استهداف سيارة محمود أحمد العلي، وهو مزارع وموظف في مؤسسة مياه البلدة، وكان ابنه يرافقه آنذاك، ما أدى إلى وقوع أضرار بالسيارة ونجا الأب وابنه بأعجوبة، كما قال العلي، وتبين أنه تعرض لهجوم بـ”مسيرة انتحارية”.

وفي 21 تموز\ يوليو 2024، تعرضت البلدة لهجوم بـ12 طائرة مسيرة انتحارية، مستهدفة سيارة لنقل الخبز، وآلة حفر آبار مياه، وآليات زراعية، ما دفع نزوح عدد من سكان البلدة إلى المخيمات الحدودية، بحسب محمد أبو عبدو، أحد سكان البلدة.

ووثق مقطع فيديو متداول على وسائل التواصل هجوم “المسيرة” على حفارة الآبار بمحيط بلدة النيرب، حيث سُمع أزيزها قبل أن تنقض على الحفارة، واقتصرت الأضرار على المادية.

https://www.google.com/url?q=https://drive.google.com/file/d/1YHlNBHYqvsIRiToM5mFoebIVMJXpRrXI/view?usp%3Ddrive_link&sa=D&source=docs&ust=1736845082644266&usg=AOvVaw3nF2eG2CKSJjf6ZtaGY-ib

في صبيحة ذلك اليوم، كان فادي الطاهر وزميله كريم العلو نائمين بالقرب من الحفارة، عندما بدأت المسيرة تحوم بالقرب منهما. استيقظ الطاهر على صوت المسيرة، وعندما تفقد المكان شاهدها محملة بقذيفة فسارع إلى إيقاظ العلو، الذي كان نائماً في مقطورة الحفارة، كما قال بشهادته لفريق التحقيق.

نجا الطاهر والعلو لكن الحفارة “وهي مصدر دخلنا الوحيد تعطلت”، ومن دون العمل “لا يمكننا شراء احتياجات أطفالنا، كما أن الضرر سيلحق بالمزارعين أيضاً، الذين يعتمدون علينا في حفر آبار مياه الري بالمنطقة”، بحسب الطاهر. 

وفي 6 آب/ أغسطس 2024، شنّ النظام هجوماً بثماني طائرات مسيرة انتحارية، انطلاقاً من معسكر جورين في سهل الغاب، استهدفت قرى الزقوم والدقماق والحميدية وبلدة قسطون، ما أدى إلى إصابة مدني وتدمير خمس آليات زراعية، 

اللافت في هذا الهجوم وصول ثلاث طائرات إلى مسافات تجاوزت العشرة كيلومترات، وهذا مؤشر على عملية تطوير الطائرات وتزويدها بآليات وتجهيزات مكنتها من الوصول إلى قرية الزقوم وتحقيق إصابة مباشرة.

صورة جوية توضح المسافة بين مركز إطلاق الطائرة المسيرة الانتحارية FPV في معسكر جورين ونقطة سقوطها في قرية الزقوم بمنطقة سهل الغاب

وثق أحد سكان قرية الزقوم لحظة وقوع انفجار في قريته، تبين أنه هجوم طائرة مسيرة انتحارية على سيارة في البلدة، ما أدى إلى إصابة بشار خالد الجاسم، فيما ادعت قوات النظام أن الطائرة استهدفت أحد مقرات الإرهابيين ودمرت عتادهم في منطقة سهل الغاب.  

سرد الجاسم تفاصيل الحادثة، في مقابلة صوتية أجراها مع فريق التحقيق، قائلاً: “بينما كنت أجهز سيارة شقيقي للذهاب إلى رعي الأغنام، هاجمتنا طائرة مسيرة محملة بقذيفة صاروخية. اقتربت منا بسرعة ومن ثم اصطدمت بالسيارة وانفجرت، فأصبت بعدة شظايا واحدة وصلت إلى الكبد”.

“السيارة هي وسيلتنا الوحيدة، ومن دونها لا يمكننا استئناف عملنا، لأننا ننقل فيها الأغنام إلى المراعي، وننقل الحليب لبيعه في الأسواق”، وبعد تدميرها بـ”المسيرة” خسرنا مصدر دخلنا، على حد قوله.

بشار خالد الجاسم يخضع للعلاج في أحد مستشفيات شمال غرب سوريا، بعد إصابته بهجوم مسيرة انتحارية FPV، (فريق التحقيق)

في ذات اليوم، وعلى بعد سبعة كيلومترات، هاجمت طائرة مسيرة انتحارية سيارة المزارع سليمان الحسين، كانت مركونة أمام منزله، ما أدى إلى وقوع انفجار دوى صوته في كامل قرية قسطون، كما قال لمعدي التحقيق.

من حسن حظ الحسين أن جميع أفراد عائلته، المؤلفة من 14 شخصاً، كانوا داخل المنزل “ولو صادف وجود أحد منهم في الخارج لقتل على الفور”، على حد قوله، مستدركاً: “سيارتي التي دُمّرت أغلى ما أملك، فيها أذهب إلى الحقل، وتساعدني في أداء عملي، ومع احتراقها فقدنا كل شيء”.

يسعى النظام من خلال تكرار هجماته بـ”المسيرات” على أهداف مدنية بالقرب من خطوط التماس إلى “تهجير السكان من منازلهم وأراضيهم”، بحسب عبد الرحمن أحمد، مدير مكتب التوثيق في حماة، مشيراً إلى أن “68 بالمئة من الهجمات استهدفت المزارعين أثناء ممارسة أعمالهم الزراعية”.

من خطر “المسيرات” إلى الفقر

تصاعد الهجمات ضد المزارعين دفعت عشرات العائلات إلى ترك أراضيهم وحقولهم قبل أن يجنوا محاصيلهم، في عملية تهجير قسري جديدة تجبرهم على العودة إلى المخيمات الحدودية مع تركيا، كحالة المزارعة مهدية الجندوب، التي تنحدر من منطقة جبل الزاوية جنوب إدلب، والأم لأربعة أطفال.

بينما تخيط الجندوب قماش خميتها في مخيمات الكرامة على الحدود السورية-التركية، قالت: “في عام 2021 تركت المخيمات وعدت لزراعة أرضي رغم كل التحديات، وعلى مدار ثلاث سنوات كنت أجني المحصول وأكسب الربح منه، استعملت بعضه لترميم منزلي المدمر في منطقة جبل الزاوية جراء القصف”.

وأضافت: “في عام 2024، تعرضنا للهجوم بالطيران المسير عدة مرات، إحداها كانت بالقرب منا أثناء عملنا في الحقل، ونظراً لتكرار الهجمات تركت الأرض وعدت إلى المخيم مجدداً لأنجو بحياتي وحياة أبنائي الذي يبلغ أكبرهم 17 عاماً”.

“كنا نعيش من خيرات الأرض التي تركها لنا زوجي قبل مقتله بقصف طائرات النظام في عام 2018″، قالت الجندوب، مستذكرة آخر كلمات زوجها الذي أوصاها في “الأطفال ورعايتهم”، لذا “سأتحمل الفقر والجوع عوضاً عن المخاطرة بحياتهم”.

مهدية الجندوب داخل خيمتها في مخيم الكرامة على الحدود السورية-التركية، (فريق التحقيق)
مهدية الجندوب داخل خيمتها في مخيم الكرامة على الحدود السورية-التركية، (فريق التحقيق)

تختزل الجندوب معاناة الكثير من السوريين، الذين يعانون من تفاقم أزمة الفقر والجوع في السنوات الأخيرة، إذ تشير الأرقام إلى ارتفاع حدّ الفقر إلى 91,16 بالمئة والجوع إلى نسبة 40,90 بالمئة، وفقاً لتقرير صادر عن فريق “منسقو استجابة سوريا” في تموز/ يوليو.

وفي رسالة أرسلها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، لمؤتمر بروكسل السنوي السابع لدعم مستقبل سوريا، العام الماضي، قال أن تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون تحت خط الفقرة، وأن أكثر من 15 مليون سوري، أي 70 بالمئة من إجمالي عدد السكان يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية.

مقابل هذا التصعيد، كان رد المجتمع الدولي خجولاً حيال “المسيرات الانتحارية”، إذ اقتصرت ردود الأفعال على التنديد والاستنكار، تلك الردود التي أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تعميق معاناة السوريين، التي تمتد لأكثر من ثلاثة عشر عاماً. 

وفي هذا السياق، أدانت وزارة الخارجية البريطانية هجمات قوات النظام  ضد المدنيين في شمال غرب سوريا بـ”المسيرات الانتحارية، مشددة عبر حساب الممثل الخاص للمملكة المتحدة في سوريا في منصة × (تويتر سابقاً)، على ضرورة “محاسبة مرتكبي هذه الجرائم”.

بينما ترك العديد من المزارعين أراضيهم القريبة من خطوط التماس، تمسكت ولاء الجاسم، بأرضها في سهل الغاب بريف حماة الغربي، واستمرت في زراعة ورعاية أرضها، البالغة مساحتها خمسة دونمات، لتأمين احتياجات عائلتها، كما قالت لمعدي التحقيق.

تعمل الجاسم، وهي أم لسبعة أبناء، مع بناتها في الأرض، قائلة: “مع شروق الشمس أذهب مع بناتي لقطف الخضراوات، البندورة والخيار أو الفاصولياء، أو لتعشيب الأرض من الأعشاب الضارة”، مضيفة: “عيوننا تارة على عملنا في الأرض وتارة في السماء من جهة الغرب، حيث مناطق سيطرة النظام، خشية أن يقصفنا بطائراته المسيرة”.

تطوير من أجل مزيد من الضحايا

أسقطت فصائل المعارضة وبعض المدنيين بأسلحة الصيد طائرات مسيرة انتحارية، وبعضها سقطت من تلقاء نفسها وتشير العلامات وآلية التصنيع والشكل لتلك الطائرات أنها من طراز FPV  وهي اختصار للمصنع الأول تقنية منظور الشخص الأول First Person View والتي تسمح للمستخدم برؤية ما تلتقطه كاميرا الطائرة رباعية المحركات في الوقت المباشر، التي تطورت لاحقاً وأصبحت تستخدم نظارات الواقع المعزز VR تتيح لمشغلها عيش تجربة طيران مثيرة ومشوّقة، إضافة لأداء حركات بهلوانية بكل سلاسة بحسب الخبير في سلاح الطائرات المسيرة “محمد العلي” العامل في صفوف الجيش الوطني التابع للمعارضة السورية.

إذ تصل كلفة صناعة كل طائرة مسيّرة إلى 315 دولار ثمن هيكل ذو أربعة أذرع مصنوع من ألياف الكاربون أو صفائح الألومنيوم المقوى بقيمة لا تتجاوز 10 دولارات أمريكية، ودائرة التحكم والتوجيه واستقبال الإشارة Autopilot بقيمة 80 دولاراً، وكاميرة ومرسل فيديو FPV video بقيمة 50 دولاراً، وأربع محركات تصل قيمتها إلى 160 دولاراً، وبطارية تكفي لقطع مسافات ليست بالبعيدة، بيد أن قوات النظام وحلفائها يعملون بشكل مستمر على تطوير  البطارية حتى وصلت إلى  12 كيلومتر فيما تكون قيمة البطارية الأساسية 15 دولار، إضافة للذخيرة المتفجرة بوزن ثلاثة كيلوغرامات تختلف كلفتها حسب نوعها وحسب الجهة العسكرية المصنعة.

وفي شمال غرب  سوريا تبين من خلال حطام عدة طائرات تم إسقاطها وأخرى علقت بين أغصان الأشجار أن القذيفة أشبه بصاروخ RPG لكنّها أصغر قليلاً وذات قدرة تدميرية كبيرة، إذ اخترقت في بلدة “قسطون” سطح المنزل، وفي “النيرب” حديد الحفارة الذي تصل سماكته إلى حوالي 7مم، وفي “قسطون” اخترقت حديد سيارة بيكاب وهو من النوع الصلب ويستخدم لتحميل البضائع.

بالاعتماد على البحث العكسي في محرك بحث غوغل تبين  تتطابق صور الطائرات المسيرة الانتحارية التي تم إسقاطها مع صور مماثلة لذات الطائرات منشورة على متجر بيع إلكتروني يدعى “علي بابا” حيث يعرض الميزات الفنية للطائرة و سعرها المقدر بحوالي  300دولار، كما تتطابق صور الملحقات المعروضة على الموقع المذكور مع الملحقات التي تحويها بقايا الطائرات الانتحارية في شمال غرب سوريا، بيد أن بعض الطائرات المسيرة الانتحارية التي تم إسقاطها أو سقطت من تلقاء نفسها أو مخلفاتها تشير إلى تعديل كبير طال الحامل الرئيسي للطائرة ليكون هناك نموذجين للطائرات المسيرة الانتحارية التي تهاجم المدنيين.

يقول عبد المهيمن الشاغوري وهو صاحب متجر معدات الكترونية منها طائرات درون في محافظة إدلب، “إن طائرات fpv وتجهيزاتها متاح شرائها من خلال المتاجر الرقمية ومنها متجر علي بابا، حيث يلجأ الكثير من أصحاب المحلات للشراء من الموقع المذكور واستلام البضائع في أي دولة من العالم بما أنها معروضة على الفضاء الرقمي من جهة، وعرضها يكون للأعمال المدنية من جهة أخرى”.

استخدم نظام الأسد وحلفاءه نموذجين من طائرات FPV  في هجماته على المدنيين ومنازلهم وسياراتهم، أولها كان ذا الحامل المصنوع من الكربون وهو الجسم الأصلي للطائرة ودائماً ما يتم استخدامه للهجمات القريبة تحت مسافة 4 كم، ونموذج ثانٍ ذا حامل مصنوع محلياً من الألمنيوم، يتم تثبيت القطع الإلكترونية والصاروخ عليه ويستخدم للهجمات البعيدة فوق الـ 8 كم.

 نموذج الكربون: تم رصد بقايا لطائرات FPV ذات حامل كربوني في خطوط التماس القريبة مثل “النيرب شرقي إدلب ومنطف و سرجة و كفرلاتة جنوبها”، وجميع تلك القرى لا تبعد أكثر من 3 كم عن نقاط  الانطلاق التابعة لمراكز العمليات والقيادة في “تل مرديخ و ترنبة وسراقب”، وهذا هو النموذج الأصلي للطائرة دون تعديل فيما يخص المحركات والجسم الحامل والبطارية.

 في الصورة التالية مطابقة بصرية بين إعلان لطائرات fpv الصينية على موقع الشراء “علي بابا” وبين طائرة سقطت في قرية “منطف” في منطقة أريحا في 15 تموز\يوليو 2024 تظهر التطابق في الصورتين وعودتهما لمصنع واحد.

 نموذج الألومنيوم: وثق فريق التحقيق بقايا ومخلفات لطائرات FPV ذات حامل مصنوع من الألومنيوم، مثبت عليه محركات كبيرة على الأجنحة الأربعة وبطارية ذات حجم أكبر من البطارية الأصلية المثبتة مع النموذج الكربوني، إضافة لقدرة تدميرية أكبر بنموذج الألومنيوم وهذا الشكل تم رصده في بلدات “قسطون والزقوم والدقماق والحميدية والقرقور” غرب حماة، و”دارة عزة” غربي حلب البعيدة عن نقاط الانطلاق بمسافة تزيد عن 9 كم وتابعة لغرف عمليات معسكر “جورين” غرب حماة و”عنجارة” غرب حلب.

يُرجع الخبير بالطائرات المسيرة “محمد العلي” نموذج الألومنيوم إلى عملية تجريب وتطوير على الطائرة لتقطع مسافة أكبر وتحمل قدرة بقاء أطول بالجو، وتكون قادرة على حمل صاروخ أو قنبلة ذات قدرة تدميرية أكبر من نموذج الكربون، ويعمل نظام الأسد والقوات الروسية منذ العام 2023 على تصنيع حوامل ألمنيوم، وزيادة قدرة البطارية في مراكز البحوث العلمية الواقع بالقرب من تل قرطل جنوب مدينة حماة، ومركز البحوث العلمية في مصياف  والذي تعرض لعدة عمليات استهداف إسرائيلية منذ العام 2015 حتى العام 2024، والتي كانت تهدف بحسب الإعلام الإسرائيلي لحد قدرات الميليشيات الإيرانية وقوات النظام من تطوير الأسلحة بحسب مانقلته صحيفة القدس العربي عن مصدر وصفته بـ واسع الاطلاع.

https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%87%D8%AF%D8%A7%D9%81-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%AF%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D8%B3%D9%84%D8%AD%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%B2-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A/

اتبعت قوات النظام وحلفائها الروس والإيرانيين أسلوب هجمات متفاوت زمنياً، ومتغير جغرافياً باستخدام الطائرات المسيرة الانتحارية بحسب الراصد  العسكري “أبو أمين” _ الذي فضل عدم ذكر اسمه الصريح لأسباب تتعلق بالأمان إذ تتوزع الهجمات بالطائرات المسيرة الانتحارية بين مناطق سهل الغاب غرب حماة، ومنطقة أريحا جنوب إدلب وسرمين شرقها ومنطقة الأتارب غرب حلب.

حيث تنقل قوات النظام الهجمات من منطقة لأخرى بفارق زمني لا يقل عن 10 أيام، وهدفها من ذلك إعطاء فترة زمنية للسكان حتى يعودوا لحياتهم الطبيعية شيئاً ما ويخفضون مستوى الحذر، ليتم مهاجمتهم من جديد وبشكل متكرر على فترات زمنية لتحقيق أكبر قدر من الإصابات بين السكان.

يضيف أبو أمين العامل برصد طائرات النظام الحربيّة والطائرات الروسية والتّحركات العسكرية شمال غرب سوريا: “إن أكبر مسافة قطعتها الطائرات المسيرة الانتحارية fpv هي  9200كم في قرية القرقور بسهل الغاب غربي حماة، عند استهداف الطائرات لغرفة صيادي أسماك، وقرية سرجة في منطقة أريحا عند استهداف برج اتصالات مدني على خزان مياه عمومي”.

خلاصة

وبحسب ما خلص إليه فريق التحقيق فإن شركة الصناعات التكنولوجية الصينية dji تعد مسؤولة عن وصول منتجاتها لنظام الأسد وحلفاءه واستخدامها في مهاجمة المدنيين وقتلهم، حيث لم تحقق الشركة أو تصدر بيان عن عدم مسؤوليتها عن استخدام نظام الأسد لمنتجاتها في قتل المدنيين. 

سخر نظام الأسد مراكز الأبحاث العسكرية التي من المفترض تكون لتطوير أسلحة لحماية البلاد من خطر خارجي إلى خدمة الروس والايرانيين بغية تطوير أسلحة لاستخدامها في حروبهم، بالتوازي مع تسخيره لكلية الطب البيطري في حماة والتابعة لجامعة حمص، والتي كانت قبل العام 2011 مخصصة للدراسة الاكاديمية إلى مركز عسكري لخدمة الروس والايرانيين.

أحدثت الهجمات بالطائرات المسيرة الانتحارية موجة نزوح جديدة للسكان حينها باتجاه المخيمات مما أسفر عنه ارتفاع نسب البطالة والفقر، بالتزامن مع فشل المجتمع الدولي حينها بإيقاف تلك الهجمات واكتفائه بموقف المتفرج.

اتبعت قوات النظام وحلفائها منذ مطلع العام 2024 نهج تجريب الطائرات المسيرة الانتحارية على أجساد السوريين القريبين من خطوط التماس حينها بحسب المقدم في الجيش الوطني  هيثم دحمان، إذ تفاوتت الهجمات من منطقة لأخرى باستخدام ذات السلاح مع اختلاف النماذج، حيث حولت روسيا وإيران السوريين إلى حقل تجارب لتطوير الأسلحة التي استخدمتها في حروبها في أوكرانيا واسرائيل، والتي هاجمت بدورها بعشرات الغارات الجوية مراكز الأبحاث التي كانت تابعة لنظام الأسد في مصياف والسفيرة واللواء 47.

لم يكن تطوير الأسلحة وتجريبها على السوريين بالجديد على روسيا، إذ عملت القوات الروسية على تطوير سلاح الصواريخ الموجهة كورنيت في العام 2021 وطورت قدراته التدميرية ومسافة الهدف من 5.5كم إلى 9 كم بحسب تحقيق للعربي الجديد  ، سبقه اعتراف صريح من  وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، في صيف العام 2021 بالقول  إن جيش بلاده جرب أكثر من 320 نوع سلاح مختلف خلال عملياته في سوريا.

أدت زيادة الهجمات على المدنيين وأراضيهم الزراعية، عبر “المسيرات الانتحارية” إلى تدمير سبل عيشهم ومشاريع الاستقرار الجديدة للعائدين إلى مواطنهم، خاصة مع تدمير وسائل الإنتاج، من قبيل الآليات الزراعية والسيارات.

لطالما “روجت حكومة النظام خلال السنوات الأخيرة إلى سعيها لتحقيق مشاريع الاستقرار وسبل العيش، واستجدت المجتمع الدولي لمساعدته”، وفي الوقت ذاته “يستعمل النظام الطائرات المسيرة الانتحارية لإجبار السكان على النزوح من بلداتهم، وهذا انتهاك للقانون الدولي، الذي يؤكد على حق الفرد بالاستقرار والانتفاع بأملاكه الخاصة، ويدين الأطراف التي تستعمل القوة وتهجيره الفرد من بلدته”.

يقول الناشط أحمد العلي إن قوات النظام دخلت في سباق تطوير الاسلحة خاصة منها ذات التوجيه البعيد كالطائرات المسيرة بيد أن تلك القوات جعلت هدفها المدنيين العزل منهم الأطفال والنساء والشيوخ بعكس خطط التطوير المتبعة لدى جيوش الدول إذ استخدم نظام الأسد تلك الأسلحة كعملية انتقامية من المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرته.

 

تم إنجاز هذا التحقيق بالتعاون مع “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وبإشراف المدربة الدكتورة منى عبد المقصود. 

شارك