جسر – دمشق (رامي بديوي)
عانت حرفة الموزاييك الخشبي في دمشق من معوقات عديدة، خصوصاً خلال الأعوام الماضية، بعضها نتيجة غياب حوامل الطاقة أو ارتفاع أسعارها، والبعض الآخر نتيجة القيود التي فرضها نظام الأسد البائد، سواء عبر قوانين جائرة أو من خلال ممارسات قمعية طالت الكثير من أصحاب المهن اليدوية.
فؤاد عربش، أحد أبرز الحرفيين العاملين بمهنة الموزاييك الخشبي المطعم بالصدف، قال في حديث خاص لصحيفة “جسر” إن “ظروف الأعوام الماضية تسببت بخسارة الكثير من الحرفيين الذين تهجروا وتركوا ورشهم، كما تعرضنا للكثير من التضييقات، كقطع التيار الكهربائي الذي يعتبر عاملاً أساسياً وهاماً، والإتاوات والرشاوي للمحافظة والبلدية والمالية”.
كما أدت هذه الظروف الصعبة إلى تغييرات في طبيعة العاملين في هذه الحرفة، فالضرائب الجائرة المفروضة على الحرفي كانت تحتسب على معدل إنتاج ثماني ساعات، وهو فعلياً لا يعمل سوى ساعة أو ساعتين يومياً.
يقول عربش: “كل هذا ولا نستطيع أن نعترض.. كنا نعيش بما يشبه المزرعة. رغم كل ما قدمناه من أجل استمرارية الحرفة، كنا محاربين من قبل ما كان يسمى قيادات حزبية، فكل مبادرة أو معرض فني أو فعالية تراثية كانت بحاجة إلى موافقة بذريعة اللوائح والقوانين، ما عدا التقارير الكيدية التي كانت ما تسمى القيادات السابقة تشجع عليها.. أنا شخصياً عانيت مراراً من هذا الموضوع، أما الآن فبدأنا نشعر بطعم الحرية من خلال قدرتنا على الكلام والعمل”.
الموزاييك الخشبي المطعم بالصدف
الموزاييك حرفة ابتكرها الدمشقيون ضمن أسوار المدينة القديمة، وتوضحت معالمها على يد مؤسسها جرجي البيطار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.، وانتشرت في دمشق وريفها واعتمدت بشكل كبير على أنواع الأشجار المتواجدة في الغوطة من جوز وليمون.
تطورت ملامح الحرفة عبر الزمن سواء عبر إدخال التصاميم الهندسية الجديدة أو أشكال القطع الخشبية، والموزاييك مهنة توارثتها الأجيال، لكن الأعوام الماضية كان لها دور سلبي واضح بكسر سلسلة توريث المهنة من الآباء إلى الأبناء.
ضيف الحرفي فؤاد عربش: “لقد أحضرت ابني كي أعلمه سر المهنة، لكنه سيق عبر أحد الحواجز العسكرية التي كانت منتشرة زمن النظام البائد إلى الاحتياط، حيث تم تغييبه حوالي سبعة أعوام، وبالتالي، ضاع مستقبله كشاب، وتحول أعظم طموح له في أن يتسرح ليهرب خارج البلاد”.
بغصة وحزن يكمل السيد عربش حديثه: “هو الآن شيف يعمل في الخارج بأحد المطاعم.. لقد خسرته المهنة وخسره وطنه نتيجة الحالة العبثية التي كنا نعيش بها.. للأسف، الشاب السوري لم يكن يستطيع العيش في بلاده، فعند بلوغه الخامسة عشرة من عمره يبدأ بالتفكير بالهروب، وهذه مشكلة عامة”.
يتابع: “في ورشتي التي كانت تستوعب عشرة عمال، أنا اليوم أعمل وحيداً”.
استمرارية حرفة الموزاييك الدمشقي
وحول رؤيته لاستمرارية حرفة الموزاييك الدمشقي التي أصبحت هوية تراثية تتميز بها سوريا عن باقي الدول، يقول الحرفي: “نحن نطمح إلى أن نحظى برعاية خاصة لهذه الحرف من قبل الحكومات الجديدة كي تستمر وتتعلمها الأجيال القادمة، وأن تتوفر المواد الأولية بأسعار مدروسة، إضافة إلى رعاية إقامة دورات تدريبية مجانية، حتى نستقطب الشباب، وأن نوجد أماكن عمل تستوعب الجيل الجديد كي لا يهاجر”.
كالعديد من الحرف اليدوية السورية التي اشتهرت عبر التاريخ، يشكل الموزاييك الخشبي المطعم بالصدف، بتكوينه الجمالي المعشق بأصالة الشام، تراثاً حضارياً وهوية ثقافية تعرف بالسوريين وإسهاماتهم في بناء الحضارة الإنسانية على مر الزمن، لكن يظل شرط بقاء هذه الحرفة واستمراريتها مرهوناً إلى حد كبير برعاية ودعم الحكومات لها، وهذا ما يتمناه أصحاب هذه الحرفة بالمستقبل.