فلول النظام وضحايا الانتقام.. جرائم مستمرة بالساحل تهدد سوريا بحرب طائفية

شارك

جسر – نينوى العيسى

بين جدران البيوت المستباحة وفوق مناظر جثثٍ لم تجد من يواريها، تتوالى فصول مأساةٍ صادمة في الساحل السوري، حيث الدم وحده يروي تفاصيل الحقيقة. مجازر مروعة، وعمليات إعدام ميدانية، وقرى تحترق بمن فيها، توحي بأن البلاد على وشك الغرق في دوامةٍ من العنف الطائفي الذي لا ينتهي.

وما بدأ كحملةٍ لملاحقة من تصفهم السلطات بفلول النظام، تحول إلى سلسلةٍ من الانتهاكات التي طالت المدنيين الأبرياء دون تمييز، حيث تتصاعد أصوات المفجوعين، وتنهمر شهادات الناجين عن فظائع ترتكب أمام الجميع وسط إداناتٍ دوليةٍ لم تغير من الحال شيئاً.

الشرارة الأولى من اللاذقية

في قرية ذات غالبية علوية في ريف محافظة اللاذقية الساحلية بدأ التوتر، وكان ذلك على خلفية توقيف قوات الأمن السورية لمطلوب من فلول النظام البائد، وما لبث أن تطور الأمر إلى اشتباكات بعد إطلاق مسلحين علويين النار على قوات الأمن وقتل عدد منهم، وفق ما أكدت أغلب الأخبار.

عقب ذلك، أطلقت قوات الأمن العام عمليات واسعة النطاق لتعقب فلول الأسد، حيث أرسلت السلطات تعزيزات وأرتالاً عسكرية إلى محافظتي اللاذقية وطرطوس، جرى جمعهم بالنفير العام والإعلان عن “الجهاد” في المساجد، وبعد ذلك توالت أخبار تصفية مئات الأشخاص من الطائفة العلوية وقتلهم بدم بارد في مجازر طائفية، في حين لا تزال عشرات الجثامين متناثرة عند أطراف الطرقات وفي شوارع القرى، لم يتمكن ذووها من دفنها أو الوصول إليها.

أحداث موثقة

انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات لمشاهد توثق عمليات إعدام ميداني لمدنيين، بالإضافة لعمليات تعذيب وإذلال لأسرى مدنيين يُجبرون على الزحف، منهم من تتم تصفيته أثناء عملية تعذيبه. كما انتشرت فيديوهات تظهر عمليات سرقة وتخريب لمنازل ومحال تجارية وحرق سيارات.

تمكنت صحيفة “جسر” من الاطلاع بشكل مباشر، على روايات وشهادات عدد من ذوي الضحايا الذين قتلوا خلال اليومين الماضيين في بانياس، نضمّنها مختصرة في هذا التقرير، لصعوبة نشرها كاملة.

ثناء عليان قالت: “زوجي لم يكن فلول ولم يقاتل أحداً.. دقّوا الباب، ولما فتح سألوه: أنت علوي أم سني؟ وبناء على جوابه تم قتله بدم بارد بعد أن أخذوا سيارته وأجهزة الموبايل”.

الدكتورة علا عماد الموسى، تقول: “أنا مو منيحة.. عيلتي ما بقي منها حدا. خالي مقعد، وخالي التاني عنده تخلف عقلي، وعمي صاحب دكانة براس الحارة، عمره ما طلع منا، وعمي التاني أستاذ والكل بيشهد بأخلاقه.. قتلوا كلهم بلا ذنب، وشباب طلاب جامعة أخذوهن ولهلأ ما منعرف شو مصيرن.. أي نحنا مو مناح”.

عبدالله علي وهو يذرف الدموع على ما آلت إليه قريته، يقول: “يلي صار ببارمايا مو مجزرة.. هو حرفياً دمار شامل. القرية الموجودة على طريق بانياس القدموس تعرضت لعمليات تدمير وحرق بشكل واسع من قبل رتل ضخم من الدبابات وسيارات الدوشكا.. معظم سكانها هربوا إلى القرى المجاورة، واللي بقي إما قتيل أو جريح.. المشهد كأنه قادم من الجحيم”.

نوفل نيوف يقول إن “عناصر الأمن قتلوا يوسف نيوف وزوجته وابنه الشاب، وشخصًا آخر من الجيران، وقتلوا ابن أختي آصف نيوف وعديله بالرصاص أمام بيتهما، وقتلوا الصيدلي الشاب وحيد والديه، حيدر سلوم، في صيدليته في بانياس”.

حلا منصور أكدت أن خالتها قُتلت مع عائلتها بالكامل رشقًا بالرصاص في بانياس، “هي وزوجها طبيبان، وأولادهما.. الكبير طالب طب أسنان، والصغير في الصف العاشر. ما ذنب هؤلاء الأبرياء؟”.

الصحفية رفاه الأسعد تحدثت عن مجزرة في قرية العنازة، التابعة لناحية السودا بطرطوس: “دخل إليها رتل من 200 آلية قادماً من بانياس، وتوقف عند مدرسة الثانوية. نزل بعض المسلحين وقتلوا شيخاً من القرية بلا سبب، ثم دخلوا منزل محمد ونوس ليقوموا بإعدامه ميدانياً هو وزوجته وولديه”.

الشابة رشا تقول بحزن: “أنا اليوم أصبحت يتيمة.. أمي التي علمتنا أن الإنسانية لا تتجزأ، وإخوتي الذين لم يحملوا سلاحاً في يوم من الأيام، ذُبحوا جميعهم في منزلهم.. أمي وإخوتي ذُبحوا ظلماً، وما تزال جثامينهم في المنزل لا أستطيع دفنهم”.

ردود غربية على أحداث الساحل

نددت جهات دولية وأوروبية بالمجازر التي تحصل في الساحل السوري، ودعت إلى وقف فوري لأعمال العنف.

المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك قال إن الأمين العام أنطونيو غوتيريش يدين بشدة كافة أعمال العنف في سوريا، داعياً جميع الأطراف إلى حماية المدنيين، أما المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون أعرب عن بالغ قلقه إزاء التقارير الواردة عن عمليات القتل، قائلًا: “نسعى للتأكد من الحقائق بدقة.. وهناك حاجة فورية لضبط النفس وحماية المدنيين وفقًا للقانون الدولي”.

الإدارة الأمريكية أدانت المجازر المرتكبة بحق أقليات في سوريا، وحضّ وزير خارجيتها ماركو روبيو السلطات الانتقالية السورية على محاسبة المسؤولين عن الجرائم، في حين نددت الخارجية الفرنسية بـ “التجاوزات التي طالت مدنيين على خلفية طائفية”، ودعت الحكومة الانتقالية السورية إلى إجراء تحقيقات مستقلة تكشف كامل ملابسات الجرائم، أما ألمانيا وصفت التقارير الواردة عن أعمال القتل في سوريا بأنها “صادمة”.

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر حضّ الشرع على وقف هذه المجازر، وقال: “أولئك القتلى ليسوا جميعهم من فلول النظام، بل إن غالبيتهم من المدنيين الأبرياء والعزّل ومن النساء والأطفال”.

وفي السياق، قال الباحث في مؤسسة “سنتشوري انترناشونال” آرون لوند: “المسلحون العلويون لا يشكلون تهديداً لسلطة الشرع، لكنهم يمثلون تحدياً محلياً خطيراً”، مبدياً خشيته من أن يطلق التصعيد الأخير العنان لتوترات قد تزعزع الاستقرار بشكل كبير.

السلطة الجديدة وتحدياتها الأمنية

خلال كلمة ألقاها في أحد مساجد دمشق، قال الرئيس أحمد الشرع إن “ما يحصل في البلد هو تحديات متوقعة.. يجب أن نحافظ على الوحدة الوطنية، على السلم الأهلي قدر المستطاع”.

من جانبه، “سمير م” وهو أستاذ في القانون الدولي، يرى أن دعوات الشرع للسلام متناقضة مع الأفعال المنسوبة لقواته، حيث أظهرت الفصائل التي تنضوي تحت إدارته أنها لا تتصرف بصفتها مؤسسة حكومية انتقالية، بل كحركة تحرير الشام المنحدرة من تنظيم القاعدة.

وأضاف: “هذه الأفعال مؤشر واضح على أن البلاد تتجه نحو حرب أهلية طائفية”، حسب رأيه.

وعود مشكوك بجدّيتها

الوعود بوقف العمليات العسكرية أو ضبطها أو استكمالها لا تحمل الكثير من التأثير في هذا الواقع الصعب، والإدانات الدولية لم توقف نزيف الدم، فيما يترقب الجميع مصيراً مجهولاً يهدد ما تبقى من الوطن.

ومع استمرار الجرائم والانتهاكات، تبقى أعين السوريين شاخصة نحو السلطة الانتقالية والرئيس أحمد الشرع، الذي يتحمل مسؤولية مباشرة عن ضبط الوضع ووقف الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين، وهذا برأيي داعميه ومنتقديه على حد سواء. فبينما تعهدت الحكومة الانتقالية بحماية جميع السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم، جاءت الوقائع على الأرض لتكشف عجزها أو عدم رغبتها في كبح جماح الفصائل التي تمارس العنف تحت غطاء “ملاحقة فلول النظام”.

واليوم، ومع تزايد الضغوط المحلية والدولية، يقف الشرع وحكومته أمام اختبار تاريخي، فإما اتخاذ إجراءات حازمة لوقف التهجير والقتل والانتقام الطائفي، أو ترك البلاد تنزلق أكثر نحو دوامةٍ لا نهاية لها من الفوضى والاقتتال. وبين هذا وذاك، لا يزال السوريون يأملون أن تكون المرحلة الانتقالية بدايةً للخلاص، لا استمراراً للكابوس الذي أرهقهم لعقود.

شارك