جسر – البراء عبود
عاشت سوريا أياماً دامية بعد الاشتباكات العنيفة التي وقعت في المناطق الساحلية، والتي شملت المدن والبلدات والقرى. وسيبقى اسم “المجلس العسكري لتحرير سوريا” التابع لفلول النظام البائد أيقونةً للدم والقتل والمذابح، مستحضراً في الأذهان مجازر الحرب الأهلية اللبنانية.
وإذا كان لكل فعل رد فعل يوازيه في القوة ويعاكسه في الاتجاه وفقاً لقوانين الفيزياء، فإن هذه القاعدة انكسرت في سوريا، حيث ظهر مبدأ جديد: لكل إجرام ردة فعل انتقامية تؤاده بعد ولادته بـ 15 دقيقة -وهي مدة انقلاب فلول النظام على السلطة السورية الجديدة-مخلفةً آلاف الجراح والقصص التي جعلت الدم السوري مستباحاً بأيدي السوريين أنفسهم.
أصل الحكاية
تشير المعلومات إلى أن الساعات الأولى لهجمات “المجلس العسكري لتحرير سوريا” أظهرت نجاحاً في السيطرة على نقاط هامة داخل مدن الساحل السوري، خاصة في مراكز محافظتي اللاذقية وطرطوس، إضافة إلى مدينة جبلة وبعض النقاط في الأرياف.
هذا التمرد المسلح كان أقرب إلى محاولة انقلاب منظم، مدفوع من قوى خارجية ذات طابع طائفي. قاد هذا التنظيم العسكري غياث دلا، رئيس أركان الفرقة الرابعة في جيش النظام السابق، والذي ارتكب العديد من المجازر الطائفية، والذي قسم قواته إلى ثلاث مجموعات: “درع الأسد”، “لواء الجبل”، و”درع الساحل”، حيث نجحوا في فرض حصار شبه كامل على مراكز الشرطة والأمن العام وبعض النقاط الحكومية.
خلال هذا الهجوم، تكبدت القوى الأمنية التابعة للإدارة السورية الجديدة خسائر بشرية فادحة، حيث قُتل أكثر من 250 عنصراً في حصيلة غير نهائية، كما تم اكتشاف العديد من المقابر الجماعية، خاصة في القرداحة، مسقط رأس الأسد وغياث دلا، ولا يزال العديد من الأشخاص في عداد المفقودين، حتى الآن.
الرد العسكري الحكومي
بدأت وزارة الدفاع السورية مرحلة ثانية من العملية العسكرية ضد فلول النظام السابق. وكشفت الوزارة أن خطة الرد تمت على مرحلتين: استعادة الأمن في مدن الساحل ذات الكثافة السكانية، مثل طرطوس، اللاذقية، جبلة، بانياس، والقرداحة، وملاحقة فلول النظام في الأرياف والجبال والقضاء عليهم، وفق ما أعلنه العقيد حسن عبد الغني، المتحدث باسم وزارة الدفاع.
انتهاكات وشهادات
كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان أن عدد القتلى بلغ 1018 شخصاً، بينهم 745 مدنياً من الطائفة العلوية، أُعدموا في مجازر طائفية بمنطقة الساحل، كما اتهم قوات الأمن السورية وعناصر وزارة الدفاع والقوات الرديفة بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان.
ووصفت طالبة جامعية تعيش في مدينة اللاذقية، وشهدت على بعض الأحداث فيها ما حصل في منطقة الساحل على أنه “إبادة جماعية بحق الطائفة العلوية، من قبل جماعات إرهابية أصبحت تُعتبر جيش الدولة”، مضيفةً أنه “تم قتل الرجال والنساء على أساس طائفي دون اعتبار لسنهم أو وضعهم الاجتماعي”.
فيما وصف “حسين م” وهو ضابط سابق في جيش النظام وقام بعملية تسوية أعمال القوات الرديفة من الأجانب غير السوريين بالهمجية، حيث قال: “تمكنت أخيراً من الوصول لمدينة جبلة التي تعتبر آمنة نسبياً مع انتشار قوات الأمن العام، لقد داهموا منازلنا في قرية الصنوبر بريف جبلة وحرقوها وحرق الأراضي الزراعية مصدر عيشنا وسرقوا كل ما في المنازل وهجرونا منها قسرياً، وهربت مع عائلتي و ما يزال مصير أهلي مجهولاً لأنهم تشردوا بالجبال وبين الأحراش وانقطع الاتصال معهم”.
يضيف: “رأيت بأم عيني مجازر بحق الأطفال والطاعنين بالسن”.
“وسيم ح” معيد بجامعة تشرين وينحدر من القرى العلوية يقول: “هم أشبه بقوم يأجوج ومأجوج بتصرفاتهم وقتلهم وإرهابهم قتلوا خالتي السبعينية من العمر وحرقوا سيارة زوجها الذي تمكن من الفرار منهم، وفي قريتنا عشرات الأطفال القتلى بدون ذنب”.
المهندسة سلاف قالت: “اعتقلوا والدي وأكثر شباب ضيعتنا وعثرنا على جثثهم بعد يومين في أطرافها، ولم نتمكن من معرفة مصير والدي الذي لايزال مجهولاً ولم نجد له جثة.. لم أكن أعرف أن الدم السوري رخيص لهذا الحد”.
أهالي الشهداء: لن نسامح الفلول
أكدت مصادر حكومية استشهاد أكثر من 250 عنصراً في حصيلة غير نهائية، وشهدت محافظات عدة مثل دمشق وريفها وحمص وحماة ودير الزور ودرعا حملات تشييع جماهيرية، حيث ردد المشيعون عبارات تمجيد للشهداء، وطالبوا بالقصاص من فلول نظام الأسد الذي نصبوا كمائن للقوات الأمنية السورية في الساحل، كان أبرزها كمين قرب قرية بيت عانا بمحافظة اللاذقية، كما تم استهداف بعض العناصر أثناء تأديتهم لصلاة التراويح أو قيامهم بواجبهم بفرض الأمن وحماية أهل الساحل من فلول النظام والفوضى وفق تعبيرهم.
والد أحد الشهداء بمحافظة دير الزور طالب “بالضرب بيد من حديد على من تسول له نفسه الاعتداء على قوات الأمن ووزارة الدفاع”، مؤكداً أنه “لا بد من المحاسبة بشدة.. لقد فقدت ابني الشاب الحافظ لكتاب الله بغدر من يسمون نفسهم أخوتنا في الوطن.. القصاص القصاص”.
كما طالب أبناء عشيرة أحد الشهداء في محافظة حماة بالسماح للجهات الأمنية لهم بالانضمام إلى “الحملة لتطهير الوطن من فلول النظام المجرمين”، مؤكدين أن شهيدهم من أوائل من انتفض ضد نظام الأسد وقدم أعمالاً كثيرة في المجال الإنساني وهو اليوم يقتل بدم بارد من مجرمين وتجار حروب ومخدرات، على حد وصفهم.
والدة أحد شهداء دمشق ناشدت كل الجهات بمعاقبة من تسبب بإزهاق حياة ابنها الذي “كان كل ذنبه أنه ذهب لتنفيذ واجبه العسكري بفرض الأمن في مناطق أهله وأخوته بالساحل، فأعادوه جثة هامدة”.
وسائل التواصل بين التهدئة والتصعيد
لاتقل الحرب على أرض الواقع بشراستها عن تلك الحرب الدائرة في العالم الافتراضي. دعا د. محمود الرهبان وهو أحد أعيان كبرى الأحياء الدمشقية، إلى التهدئة، محذرًا من أن تنفيذ العقوبات يجب أن يكون عبر الدولة وليس الأفراد، وقال في “فيسبوك”: إلى من يتعذرون بمبدأ العين بالعين.. إن مبدأ العين بالعين والسن بالسن هو بيطبق ع يلي قلعلك عينك وكسرك سنك مو على أهله وجيرانه وعشيرته، ومو أنت يلي بتنفذ الحكم بإيدك، بتنفذوا الدولة الجهة الوحيدة المفوضة بحمل السلاح وكل فصيل ما انضوى تحت لواء وزارة الدفاع وعم يتلقى تعليماته منها وينضبط بضوابطها هو فصيل خارج عن القانون، وكل التجاوزات يلي حصلت بالساحل حصلت بإيد هي الفصائل وللأسف بدل ما نلاحق الفلول والمنقلبين على الدولة الجديدة صار همنا نتصدالهم ونحمي المدنيين منهم”.
في المقابل، دعا مقداد فتيحة، أحد قادة فلول النظام، إلى المزيد من التصعيد والقتل التمثيل بجثث عناصر الأمن، متفاخراً بماضيه في هذا المجال عندما كان مقاتلا في صفوف جيش النظام، ليرد عليه المغرد أبو علي ماجد ديب: “من مدينة جبلة سرقتوا كل المحلات بالشوارع وكل العمارات سرقها جماعة مقداد فتيحه بدهم كبتاكون وخمر وتدعون أنكم اتباع الإمام علي كرم الله وجهه فشرتم فمن أنتم؟”.
كما سربت تسجيلات صوتية منسوبة لـ”أبو عمشة” قائد الفرقة 25 بوزارة الدفاع، دعت إلى عمليات تصفية طائفية.
الرد السياسي
أصدر الرئيس أحمد الشرع قرارًا بتشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي، تضم حسن صوفان، والدكتور أنس عيروط، والدكتور خالد الأحمد.
كما شُكلت لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في الأحداث، بهدف:
– الكشف عن أسباب وظروف ما حدث.
– التحقيق في الانتهاكات بحق المدنيين.
– تحديد المسؤولين عن الاعتداءات على المؤسسات العامة ورجال الأمن.
وتضمن القرار وجوب تسليم تقرير اللجنة إلى الرئيس الشرع، خلال مدة أقصاها 30 يوماً.
بشار الأسد وإيران خلف الخطة.. والمخابرات التركية تتدخل
وفي خضم المرحلة برز دخول شخصيات من النظام السابق على خط الأحداث، حيث اتهم رامي مخلوف، أحد أبرز رجال النظام السابق، بشار الأسد بتوريط العلويين في صراع خاسر، واصفاً العملية بـ”الحركة الغبية”.
كما برزت مؤشرات على ضلوع إيران في الأحداث، خصوصاً بعد تصريحات علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي، قبل يوم من المواجهات، والتي حذر فيها من احتمالية اندلاع حرب أهلية على الرغم من حالة الهدوء التي كانت سائدة.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب الصحفي أسامة عمايري إنه “يتم تداول معلومات في الأروقة الأمنية السورية حول ضلوع أذرع إيران في المنطقة بتمويل وتسليح فلول نظام بشار الأسد، التي تتنقل بين الساحل ومحافظة حمص، ولديها القدرة على التحرك باتجاه شرق سوريا بسبب الوضع الأمني، وهذا يدفع للتخوف من موجات عنف جديدة”.
واعتبر أن “هناك عملية خلط أوراق واضحة ضد السلطة الجديدة في سوريا وربما أبرزها العلويين والدروز والأكراد لتشتيت هذه السلطة عسكريا وأمنيا وافقادها قوتها”.
في سياق ذلك، تداولت حسابات مقطع فيديو عبر الشبكات الاجتماعية خلال الساعات الأخيرة، يٌزعم أنه يظهر لحظة دخول أرتال وتعزيزات من الجيش التركي إلى سوريا لقطع طريق إسناد عسكري من قسد إلى ميليشيات فلول النظام السوري.
امتازت الساحة السورية في السنوات الأخيرة بكثافة الأحداث نظراً إلى التأثير البالغ للفاعلين الإقليميين والدوليين في المشهد، وبالتالي لا يمكن قراءة الأحداث الأخيرة التي عصفت بالساحل السوري في الأيام الماضية والاشتباكات التي تجددت بين القوات الحكومية وفلول النظام السابق بمعزل عن التأثير الخارجي، وإن كانت العوامل الداخلية حاضرة.