الرقابة الضعيفة تفاقم أزمة الغذاء منتهي الصلاحية في شمالي سوريا

شارك

جسر – (حنين السيد – خلف معو)

في السابع من آب/أغسطس من عام 2024، توفيت امرأة وطفلها البالغ من العمر عشر سنوات، وأصيبت طفلتها التي نقلت إلى مستشفيات الحسكة للعلاج، نتيجة تناولهم مشروب “كابتشينو” منتهي الصلاحية في بلدة “ذيبان” شرقي دير الزور، الخاضعة لحكم الإدارة الذاتية. 

تبرز هذه الحادثة جانباً من أزمة الرقابة التموينية في شمال سوريا، حيث تهدد المواد الغذائية الفاسدة حياة السكان، وسط غياب واضح للرقابة الكافية على المعابر والأسواق. ومع دخول الحرب السورية عقدها الثاني، تفككت هياكل الدولة وتعددت السلطات وتم توجيه كافة الموارد لخدمة العمليات العسكرية، ما أدى إلى إضعاف الرقابة التموينية، مما أتاح انتشار المواد منتهية الصلاحية، ليصبح التسمم الغذائي تهديداً يومياً للسكان، في ظل تباين المعايير وتعدد السلطات المتحكمة في المنطقة.

هذا التحقيق – الذي تم إعداده قبل سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد – يسلط الضوء على العوامل السياسية، الاقتصادية، والتجارية التي أسهمت في تفاقم هذه المشكلة، ويستعرض الأسباب الكامنة خلف ضعف الرقابة التموينية، إضافة إلى الحلول الممكنة لحماية صحة المستهلكين في هذه المناطق.

الوضع الاقتصادي وتأثيره على الأمن الغذائي

قبل اندلاع الحرب، كانت سوريا تعتمد على الزراعة كمصدر رئيسي للأمن الغذائي، إلا أن إنتاج القمح تراجع إلى ربع مستوياته، حيث انخفض إنتاج سوريا من الحبوب من متوسط سنوي بلغ 4.1 مليون طن قبل الأزمة، وهو ما كان يكفي لتلبية الطلب المحلي، إلى ما يقدر بنحو 1.05 مليون طن في عام 2021، وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة “الفاو” التابعة للأمم المتحدة، مما أدى إلى زيادة الاعتماد على الواردات، وسط نقص الوقود والمياه، مما فاقم من أزمة الأمن الغذائي في البلاد بسبب الاعتماد المتزايد على الواردات وانخفاض الإنتاج المحلي نتيجة الحرب المستمرة، استوردت سوريا نحو 2.7 مليون طن من الحبوب، معظمها من القمح بسبب تضرر الإنتاج المحلي بشّدّة، وكان قبل الحرب أقل من المتوسط أما في 2023، شهدت البلاد تضخماً كبيراً أدى إلى تدهور القوة الشرائية للسكان، حيث وصل مؤشر أسعار المستهلك إلى 400 مقارنة بـ 185 في 2022، وقد أدى تراجع الأمن الغذائي إلى انتشار المواد منتهية الصلاحية بسبب ضعف الرقابة وغياب البدائل المناسبة.

التدهور الاقتصادي لم يتوقف عند التضخم فقط، بل أدى إلى ارتفاع نسبة الفقر لتصل إلى أكثر من ربع السكان في حالة فقر مدقع يعيشون تحت خط الفقر بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2024 كما يعتمد عدد كبير من السكان في مناطق شمال غرب سوريا على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم اليومية والتي انخفضت بنسبة 91% في سوريا خلال 2024 بحسب منسقو استجابة سوريا.

وتُعتبر المعابر الحدودية الوسيلة الأساسية لدخول المواد الغذائية إلى شمال سوريا، مثل معبر باب الهوى، الذي يُستخدم بشكل رئيسي لاستيراد المنتجات التركية، في المقابل، تعاني المعابر الداخلية بين مناطق السيطرة المختلفة من الفوضى والفساد، مما يسهل تهريب المواد الفاسدة أو منتهية الصلاحية إلى الأسواق حيث أن المواد الغذائية المستوردة غالباً ما تكون قريبة من تاريخ انتهاء صلاحيتها أو يتم تخزينها بشكل سيئ. 

وتعد تركيا من أهم الشركاء التجاريين لسوريا، حيث تستورد سوريا معظم المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية من تركيا، بإجمالي واردات تجاوزت 2.14 مليار دولار في عام 2022 كما تستورد سوريا منتجات غذائية ومواد استهلاكية من دول أخرى مثل الإمارات والصين.

الرقابة على المعابر والأسواق

مع غياب قوانين موحدة للرقابة الغذائية في شمال سوريا، هناك اختلافات واضحة في الأنظمة القانونية تبعاً لتعدد القوى المسيطرة وتباين التوجهات السياسية، ففي شمال غرب سوريا، تخضع أجزاء واسعة من ريف حلب ومنطقتي تل أبيض ورأس العين في محافظتي الرقة والحسكة لسيطرة “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، فيما “هيئة تحرير الشام” التي كان يتزعمها أحمد الشرع المعروف سابقاً (أبو محمد الجولاني) قبل استلامه الحكم في البلاد إثر عملية عسكرية بين27 تشرين الثاني/نوفمبر وحتى سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/ديسمبر  2024، كانت تسيطر الهيئة على مدينة إدلب وأجزاء من ريفها وأرياف أخرى من اللاذقية وحلب أثناء إعداد هذا التحقيق، هذه التعددية في الجهات الفاعلة أفضت إلى تباين الأنظمة القانونية المطبقة، حسب المحامية وعد القاضي المقيمة في تركيا.

وبالعودة إلى طرق استيراد المواد الغذائية، يعد معبر باب الهوى شمال إدلب المعبر الرئيسي والأكثر نشاطاً على الحدود السورية التركية حيث تدخل من خلاله معظم المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية والسلع التجارية إلى مناطق شمال غرب سوريا، ويستخدم بشكل رئيسي لاستيراد المنتجات التركية والمواد الغذائية التي تُوزع في الأسواق المحلية والمخيمات. ويليه معبر “باب السلامة” الواقع بريف حلب الشمالي ويديره “الجيش الوطني” ويتم من خلاله إدخال السلع التجارية والمساعدات الإنسانية القادمة من تركيا إلى المناطق أعزاز وجرابلس وغيرها، فيما يقع معبر “الراعي” شمال مدينة الباب ويدار من قبل “الجيش الوطني” أيضاً ويُستخدم في استيراد البضائع والمواد الغذائية من تركيا ويخدّم منطقة واسعة تمتد إلى ريف حلب الشرقي والشمالي، كما يُعد معبراً ثانوياً بالمقارنة مع معبري “باب الهوى” و”باب السلامة”، لكنه مهم لتزويد المناطق المحيطة بالسلع، ومثله معبر “جرابلس” على الحدود التركية السورية الذي يتم استخدامه بشكل رئيسي لاستيراد البضائع التركية، بما في ذلك المواد الغذائية، إلى المناطق المحيطة بمدينة جرابلس في ريف حلب.

وفيما يتعلق بالمعابر الداخلية بين مناطق سيطرة “المعارضة” ومناطق سيطرة “النظام السابق” فهناك معبر “الحمران” الذي يستخدم في عمليات تهريب السلع، بما في ذلك المواد الغذائية، وغالباً ما كان يتم استيراد البضائع ذات المنشأ الإيراني أو السوري إلى مناطق “المعارضة” عبر هذا المعبر، بالإضافة إلى معبر “أبو الزندين” الذي كان يربط بين مناطق سيطرة “النظام السابق” ومناطق سيطرة “الجيش الوطني” في ريف حلب الشرقي ويُستخدم بشكل أساسي لاستيراد المواد الغذائية والبضائع الإيرانية المنشأ. 

أما مناطق شمال شرق سوريا التي تديرها “الإدارة الذاتية” وهي المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، هناك عدة معابر حدودية تربطها مع تركيا لكن جميعها مغلقة منذ بدء الحرب السورية في عام 2011، أما مع العراق، هناك منفذ وحيد فقط يربط بين شمال شرقي سوريا وإقليم كردستان العراق، يبدأ من المثلث الحدودي بين العراق وسوريا وتركيا، يمتد على طول 150 كيلومتراً، عبر معابر ونقاط دخول هي: “ربيعة- اليعربية”، و”سيمالكا- فيشخابور”، و”الوليد”.

وفي يناير/كانون الثاني 2020، ألغى مجلس الأمن التفويض الممنوح للأمم المتحدة باستخدام معبر  “اليعربية” الحدودي بين العراق وشمال شرق سوريا.

 أما معبر “سيمالكا” الذي أُنشئ عام 2012 فيبقى فتحه وإغلاقه مرهونًا بتجاذبات سياسية بين حكومة إقليم كردستان العراق و “الإدارة الذاتية”. ويتم عبر هذا المعبر استيراد معظم السلع والبضائع التجارية إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ويشمل الاستيراد المواد الغذائية، المنتجات الطبية، والأدوات الأساسية التي تُستخدم في الحياة اليومية ويعتبر معبراً حيوياً لنقل البضائع التجارية إلى مناطق الحسكة ودير الزور والرقة، وينوب عنه أحياناً معبر الوليد الواقع في محافظة الحسكة على الحدود مع العراق ويستخدم في استيراد المواد الغذائية والوقود والبضائع الاستهلاكية.

أما داخليا يفصل معبر “التايهة” في منبج بريف حلب بين مناطق سيطرة “قسد” و”الجيش الوطني”، كما يفصل معبر “الطبقة” بين مناطق الداخل السوري ومناطق “قسد” في محافظة الرقة ويُستخدم لنقل البضائع بين المنطقتين، حيث تستورد مناطق “الإدارة الذاتية” من خلال هذا المعبر العديد من المنتجات الغذائية والبضائع ذات المنشأ السوري والإيراني.

أطفال في مواجهة التسمم الغذائي

 في 22 من شهر آب/أغسطس من عام 2024، أصيبت عائلة مكونة من ثمانية أشخاص في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا بتسمم غذائي نتيجة تناولهم وجبة (أندومي) منتهية الصلاحية من أحد البسطات بسوق المدينة، ورغم تحفظ العائلة على تفاصيل الحادثة “لأسباب اجتماعية”، أكد مصدر طبي من مستشفى الحكمة في الحسكة، الذي استقبل العائلة، أنهم جميعاً عانوا من التهابات معوية حادة، إسهال، وإقياء. من ضمن الحالات كانت الطفلة “شموخ عامر البو سلامة” البالغة من العمر ثلاث سنوات، والتي نقلت إلى قسم العناية المشددة إثر تدهور حالتها الصحية قبل أن تتماثل للشفاء.

وتأتي هذه الحالات وحالات أخرى لأسباب تتعلق بضعف الرقابة الفعّالة على معابر شمال سوريا ويزيد عليها ضعف الرقابة التموينية داخل البلاد، مما يتيح انتشار وإدخال كميات كبيرة من المواد الغذائية منتهية الصلاحية أو التي قاربت على الانتهاء إلى الأسواق المحلية ويزيد عليه فساد التجار وبعض المسؤولين المحليين مما يسهّل عمليات تهريب البضائع غير القانونية، بما في ذلكم المواد الغذائية الفاسدة، مما يُشكل خطراً صحياً كبيراً على السكان.

 وبحسب ما رصده معدا التحقيق من خلال مقابلات مع أربع أصحاب محلات لبيع المواد الغذائية في منطقة القامشلي شمال شرق سوريا وأربعة آخرين في شمال إدلب واثنين في مدينة عفرين شمال حلب بالإضافة لبحثنا عبر الإنترنت على موقع فيسبوك الأكثر استخداماً في المنطقة، وجدنا أن المواد الغذائية منتهية الصلاحية منتشرة بكثرة ودون أي خوف من العقوبات المحتملة.

الفقر يسوق الناس إلى الغذاء الفاسد

لجأ العديد من التجار إلى إعادة بيع هذه المواد بأسعار زهيدة، مستغلين حالة الفقر وحاجة الناس الشديدة للغذاء، وتزداد المشكلة تعقيداً في مخيمات النازحين، أو المناطق النائية عن الرقابة التموينية الضعيفة أساساً، من قبل الجهات الحاكمة للمناطق المختلفة، وغالبا ما يكون سكان تلك المناطق عرضة لتناول مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك البشري بسبب سوء التخزين أو انتهاء الصلاحية.

وقد نشرت إحدى السيدات في مجموعة “حلم زمردي” التي تضم ما يقارب 46 ألف سيدة من مناطق شمال سوريا، صور لمادة غذائية تظهر وجود حشرات تطفو على وجه الطعام أثناء الطهي وكانت التعليقات تتحدث عن وجود الكثير من الحالات المشابهة حيث وجدت بعض النساء ذات الحشرة وبعضها الآخر وجدن ديدان، كما عزت بعض السيدات السبب إلى سوء التخزين ضمن المحال التجارية.

الأمر الذي يتسبب بحالة من التسمم الغذائي، خاصة بين الأطفال وكبار السن، حيث أعرب منسقو استجابة سوريا في وقت سابق من عام 2022م عبر صفحتهم على فيسبوك عن قلقهم الشديد نتيجة ازدياد حالات التسمم الغذائي ضمن المخيمات شمال غرب سوريا، نتيجة الوجبات الغذائية المقدمة إليهم وسوء تخزينها بالشكل الصحيح، حيث وصلت عدد حالات التسمم الغذائي خلال أقل من 48 ساعة إلى أكثر من مئة وخمسين حالة تسمم غذائي، بنهاية نيسان/أبريل 2022.

بينما أعلن الدفاع المدني السوري عبر صفحته الرسمية على فيسبوك عن حالات تسمم غذائي بشكل متكرر، آخرها بتاريخ 4 أغسطس\آب 2024، لطفلتين من عائلة واحدة من بلدة عزمارين غربي إدلب وذلك إثر تعرضهما لحالة تسمم غذائي، بحسب التقارير الطبية.

وفي مقابلة حصرية مع الصيدلاني “مالك الطويل”، الذي يعمل ضمن صيدليته الخاصة في منطقة “دير حسان” في مخيمات شمال إدلب، أكد على وجود المئات من حالات التسمم الغذائي مؤخراً.

فيديو الصيدلاني (يضاف عند النشر)

مقابلة – صيدلاني مالك الطويل  

وتنتشر على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالجهات التموينية في مناطق السيطرة المختلفة عشرات المنشورات التي تثبت وجود كميات كبيرة ومتنوعة من المواد الغذائية منتهية الصلاحية.

فيديو  

جهود غير كافية للسيطرة على الأغذية الفاسدة 

وفي هذا الصدد يؤكد لنا رئيس مديرية حماية المستهلك التابعة للحكومة المؤقتة “فاضل كنو” عبر مقابلة هاتفية حصرية أن انتشار المواد الغذائية منتهية الصلاحية  تزداد في كل من شهري الأول والخامس من السنة وذلك وفقاً لمدة الصلاحية عند إدخالها من المعابر بالإضافة لأشهر السابع والثامن والتاسع من السنة وهي فترات اشتداد الحر حيث تفسد المواد الغذائية بسبب سوء التخزين وعرضها أمام المحال التجارية، وأن أغلب المواد التي يتم مصادرتها هي مأكولات الأطفال والحليب كما ويشير إلى حاجة الموظفين إلى التدريبات التي تساعد في إنجاز عملية الكشف عن هذه المواد في السوق علماً أن عدد الموظفين غير كافي لكنهم من فترة قصيرة وهم يسعون في مديرية حماية المستهلك خلال خططهم المستقبلية بتدريب وتأهيل الموظفين  بشكل أفضل وزيادة الأعداد حتى تتناسب مع الضخامة السكانية في المنطقة. 

وقد شدد وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، عبد الحكيم المصري على وجود شروط لدخول المواد الغذائية من المعابر الحدودية مع تركيا، مثل أن لا تقل صلاحية المادة المستوردة عن ثلاثة أشهر باستثناء بعض المواد ذات الصلاحية القصيرة مثل “البيض”، حيث يتم اختبارها وتحليلها من خلال مخبر مختص بشكل جيد وإتلاف أي مواد لا توافق الشروط المعمول بها، مشيراً إلى محاولاتهم المستمرة في الحدّ من دخول المواد الغذائية منتهية الصلاحية، حيث أرسل لمعدّة التحقيق عشرات الصور والفيديوهات التي توثق عمليات الإتلاف، إلا أنه أشار إلى إمكانية انتهاء صلاحية المواد الغذائية داخل الأراضي السورية في الأسواق وعند أصحاب المحال التجارية الأمر الذي يصعب السيطرة عليه لأن عدد موظفي الرقابة والتموين غير كاف، على حدّ قوله.

ولا يختلف الأمر كثيرا عن المعابر التابعة للإدارة الذاتية شمال شرق سوريا حيث أوضح “بنكين أحمد” مسؤول شعبة التموين وحماية المستهلك في القامشلي، لمعد التحقيق، في مقابلة شخصية، أن أغلب المواد المنتهية الصلاحية هي مستوردة وتدخل عبر طرق تهريب غير شرعية، مشيراً إلى أن هناك مخابر للمواد الغذائية على المعابر تراقب معايير المواد ومواصفاتها قياساً بالعالمية على حد قوله، فيما كشفت شعبة التموين لمعد التحقيق عن 1120 مخالفة للمحلات الغذائية، منها 630 مخالفة لوجود مواد منتهية الصلاحية في مدينة القامشلي وحدها خلال العام المنصرم. 

 

وفي الأول من شهر أيلول/سبتمبر من عام 2024، تم ضبط مجموعة مواد غذائية (حلاوة، طحينية، مايونيز…) منتهية الصلاحية لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ انتهاء صلاحيتها، من قبل شعبة التموين وحماية المستهلك التابعة للإدارة الذاتية، اطلع عليها معد التحقيق في القامشلي ووثقها بصور حصرية توضح انتهاء تاريخ صلاحيتها في الأول من حزيران/يونيو 2024 (1/6/2024) كما كان التاريخ مكتوباً على مساطر من العلب في مكتب التموين. 

مواد منتهية الصلاحية  

وصادرت الشعبة الكمية المضبوطة من منتجات لشركة منشأها الأصلي تركيا ومالكها تاجر معروف ورئيسي في القامشلي، في استيراد المواد الغذائية إلى المنطقة، لكن الشعبة لم تفصح عن كميتها وحجم المخالفة، فيما أشار مسؤول التموين إلى أن المخالفة تكون دائماً بمصادرة الكمية المضبوطة وتغريم صاحب الشركة أو المحل بقيمة المواد المنتهية الصلاحية، وإتلاف وحرق الكمية المضبوطة.

وتأكيداً لشهادة الشهود حول انتشار المواد الغذائية منتهية الصلاحية في  بعض المحال التجارية في منطقة إدلب وفي شمالها على وجه الخصوص، توجهت معدّة التحقيق إلى المنطقة واشترت مجموعة من المواد الغذائية منها “معلبات” وأخرى “أطعمة أطفال” و”مكسرات” و عصائر ووجدت أن نسبة 80% من المواد التي تم شرائها منتهية الصلاحية إما من خلال التاريخ المختوم على غلافها أو من خلال الرائحة والطعم واللون والملمس.

صور

حالات تسمم بشكل يومي في المستشفيات

وقد نوّه الصيدلاني “مشهور العبدالله” الذي تم مقابلته في نفس المنطقة المستهدفة من الزيارة الميدانية  إلى أن أكثر المواد الغذائية التي تسبب التسممات الغذائية هي مادة “البوظ” (الماء المجمد) المستخدم في تبريد المياه المعدّة للشرب حيث يتم تصنيعها في مصانع محليّة لا تراعي شروط السلامة والنظافة ومن ثم يتم نقلها وتوزيعها بشروط أسوء، وتليها مأكولات الأطفال وخاصة “الشوكولا” و “الشيبس” ومن ثم مشتقات الحليب والأجبان واللحوم والمعلبات وغير ذلك.

وتقول الطبيبة وأخصائية التغذية شكران القاضي المقيمة في مدينة إدلب إن فترة الصلاحية هي المدة التي يبقى فيها الغذاء آمناً وصالحاً للاستهلاك البشري مع احتفاظه بجودته تحت ظروف التخزين والنقل المناسبة. وتضيف أن وضع تاريخ الصلاحية على المنتجات يهدف لضمان سلامة الغذاء، حيث قد يؤدي تناول الأطعمة منتهية الصلاحية إلى فقدان قيمتها الغذائية وتغير الطعم، وصولاً إلى عواقب صحية تشمل اضطرابات الجهاز الهضمي وآلام المعدة وعسر الهضم.

كما تشير إلى أن فساد الأغذية يحدث نتيجة تغييرات ميكروبيولوجية أو كيميائية؛ إذ يؤدي تكاثر البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة إلى إنتاج مواد غير مستساغة، بينما تتسبب التفاعلات الكيميائية في تغيير الخصائص الحسية للأغذية. وتلفت القاضي إلى أن بعض الأطعمة قد تحتوي على كائنات مسببة للأمراض دون أن يظهر أي تغير واضح في الشكل أو الرائحة، مما يجعل من الضروري الانتباه لتاريخ الصلاحية والتخلص من الأطعمة منتهية الصلاحية حفاظاً على الصحة وتجنباً للمخاطر المحتملة.

تسمم غذائي في القامشلي، مطعم شهير تحت المجهر 

 

ونستعرض هنا بعضاً من النماذج التي أصيبت بتسمم غذائي (التهاب معوي) نتيجة تناول مواد غذائية فاسدة في أوقات وأماكن متفرقة شمال سوريا: 

في الـ22 من شهر أيلول/سبتمبر  2024، استقبلت مشاف في القامشلي وريفها ببلدة معبدي/ كركي لكي، أكثر من 20 حالة أصيبت بتسمم غذائي نتيجة تناول وجبات تحوي مواد فاسدة في أحد مطاعم القامشلي للوجبات السريعة. 

وأكد مدير “المشفى السوري التخصصي” في القامشلي (يحيى سعدون)، لمعد التحقيق الذي زار المشفى واطلع على سجلات المصابين، أنهم استقبلوا نحو 20 حالة (بينهم 9 من عائلة واحدة) خلال يومين، أصيبوا بانتان معوي (تسمم غذائي)، وتباينت حالاتهم بين طفيفة وحادة، تم تخريج جميعهم بعد تلقي العلاج، مرجحاً وجود مايونيز (كريم الثوم) فاسد في الوجبة. فيما أشار مكتب الصحة ببلدية القامشلي التابعة للإدارة الذاتية، لمعد التحقيق، إن سبب التسمم تناول سلطة روسية في المطعم، وشكل المكتب لجنة تحقيق في الحادثة، وكشفت تحاليل اللجنة أن سبب التسمم تبريد وتسخين السلطة لأكثر من مرة، وأصدرت اللجنة قراراً يخالف صاحب المطعم بإغلاقه لخمسة أيام. ..

ويعد أحد سلاسل مطاعم الوجبات السريعة، حيث حقق أكثر من 3910 طلبًا وبقيمة تجاوزت 194 مليون ليرة سورية، خلال ثمانية أشهر من افتتاحه، وفق تطبيق “سوق الجزيرة” المنشور على صفحة التطبيق بتاريخ 16 حزيران/يونيو 2024. 

ولم تستجب إدارة المطعم في القامشلي بالرد على استفسارات معد التحقيق حول الحادثة، فيما تم التواصل مع مصدرين من المطعم عبر تطبيق “اتصال واتساب”، أحدهما قال إن الخبر عار من الصحة وأنهى الاتصال، فيما أكد مصدر آخر من المطعم ذاته، أن هناك حالات أصيبت لكنها كانت قليلة، واعتبرها حالة عادية مشيراً إلى أنه أصيب أيضاً بحالة تسمم من تناول وجبات غذائية في مطعم آخر، وهو ما يشير ووفق ما أكده ناشطون وتقارير صحفية عن عدم التزام أصحاب أغلب المطاعم في القامشلي بمعايير الصحة وسلامة الأغذية. 

كما أكد مزكين عبدالله (43 عاماً)، من بلدة معبدة شرقي القامشلي، لمعد التحقيق عبر تطبيق واتساب، إنه أصيب مع اثنين من أبنائه وابن شقيقه بتسمم غذائي نتيجة تناول وجبة كريسبي (صدر دجاج) من المطعم المذكور، في ذلك اليوم الذي شهد حالات مماثلة في القامشلي. 

وقال إنه في تمام الساعة السادسة من مساء الأحد في الثاني والعشرين من الشهر الفائت، كان قادماً إلى القامشلي رفقة عائلته، وطلبت منه ابنته إيلين عبدالله (8 أعوام)، تناول وجبة عشاء في المطعم المذكور وتناولوا جميعهم نفس الوجبة، وبعد عودتهم، نقلوا جميعاً إلى مشفى “دار الشفاء” في البلدة، وبقيوا فيها لخمسة أيام متواصلة إلى أن تماثلوا للشفاء. 

فيما كانت حالة “نورهان” أشد وفق التحاليل الطبية التي اطلع معد التحقيق على نسخة منها،

تقارير طبية وتحاليل 

وكانت نتيجة تحليل CRP (اختبار البروتين) وهو أحد البروتينات التي ينتجها الكبد استجابة للالتهاب في يوم 23 أيلول الماضي (197) وهي مرتفعة جداً عن حدها الطبيعي (0 – 5.0) مغ/ل وهو مؤشر على وجود التهاب في الأمعاء، وبعد يومين انخفضت بنسبة قليلة (99.1) وفق مخبر “جان” للتحاليل الطبية في بلدة معبدة. 


انتشار واسع للمواد منتهية الصلاحية في أسواق الشمال السوري

بحسب ما تم رصده من  خلال استطلاع رأي عبر الأنترنت تم إعداده بشكل خاص لهذا التحقيق خلال شهر أيلول/سبتمبر من عام 2024، بين الأهالي في مناطق عفرين وإدلب والقامشلي والحسكة أظهرت نتائج الاستبيان أن ظاهرة انتشار المواد الغذائية منتهية الصلاحية في الأسواق تشكل قلقاً صحياً ملحوظاً بين السكان، مما يكشف عن قصور واضح في أنظمة الرقابة التموينية وقد شمل الاستطلاع 101 مشاركاً ومشاركة (41) منهم يقيمون في مخيمات إدلب وعفرين.

الغالبية العظمى من المشاركين (74 شخصاً) أكدوا أنهم لاحظوا وجود مواد غذائية منتهية الصلاحية في الأسواق. ويعتبر هذا الرقم إشارة مقلقة إلى مدى انتشار هذه الظاهرة، خاصة أن 43 منهم أشاروا إلى أن هذه المواد متوفرة في الأسواق منذ أكثر من ستة أشهر وتوضح هذه النتيجة أن مشكلة ضعف الرقابة التموينية ليست مسألة طارئة، بل مشكلة مستمرة.

تأثير الأسعار على السلوك الاستهلاكي

عندما سُئل المشاركون والمشاركات عن الأسعار التي تباع بها المواد منتهية الصلاحية، قال 38 شخصاً إنها تُباع بأسعار منخفضة، وهو ما يثير التساؤلات حول احتمال أن يكون الفقر والظروف الاقتصادية دافعًا لشراء هذه المواد رغم مخاطرها الصحية. لكن من ناحية أخرى، أكد 34 مشاركاً أن الأسعار لا تختلف.

كما كشف الاستبيان أن المواد الغذائية الفاسدة ليست فقط نتيجة انتهاء صلاحيتها، بل أيضًا نتيجة لسوء التخزين، حيث أكد 61 مشاركاً أنهم صادفوا مواد فاسدة بسبب ظروف تخزين غير مناسبة بسبب عدم توفر الكهرباء في الكثير من المناطق المستهدفة أو اعتمادهم على الطاقة الشمسية التي لا تفي بالغرض في الكثير من الأحيان أو أن طريقة الحفظ غير مناسبة حيث أن معظم البقاليات في المخيمات شمال سوريا موجودة ضمن خيام مسقوفة بأقمشة لا تقي من حرارة الشمس أو بسبب عرض المواد الغذائية أمام المحال التجارية وتحت الشمس مباشرة.

ومن أبرز المواد منتهية الصلاحية التي صادفها المشاركون والمشاركات هي “المعلبات بأشكالها المختلفة” بنسبة 68% ومن ثم أطعمة الأطفال” بنسبة 37%، يليها “المشروبات” بنسبة 34% و”الألبان والأجبان ومشتقاتها بنسبة 26% وحليب الأطفال بنسبة 19% ومواد أخرى مثل البيض والمكسرات والمخللات واللحوم والبقوليات والأدوية بنسبة 25% وجميعها مواد أساسية في النظام الغذائي اليومي، الأمر الذي يزيد من خطورة استهلاكها وهي بحالة غير صالحة.

وفيما يتعلق بالأمراض الناتجة عن تناول المواد منتهية الصلاحية، أكد 45 مشاركاً أنهم أو أحد أفراد عائلاتهم تعرضوا لأمراض ناجمة عن استهلاك مواد غذائية منتهية الصلاحية، وقد تنوعت الحالات بين إسهال شديد، تسمم غذائي، وارتفاع درجات الحرارة، وبعضها استدعى دخول المستشفى، كما أن أكثر الأعراض شيوعاً كانت الإسهال والتقيؤ، بينما أبلغ آخرون عن معاناة من التهابات في الأمعاء وآلام حادة في البطن. هذا الانتشار الواسع للأمراض الغذائية يسلط الضوء على مخاطر عدم الرقابة على المنتجات الغذائية، مما يتسبب في حالات تسمم قد تؤدي في بعض الأحيان إلى مضاعفات خطيرة تتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً.

و”التسمم الغذائي” حالة مرضيّة تحدث نتيجة تناول مواد غذائية فاسدة، ترافقه حرارة أو بردية “عروقات”، وأعراض هضمية، كالغثيان والإقياء بالإضافة إلى إسهالات مائية وألم بطني وتصل حالة التسمم إلى مرحلة خطرة على الصحة العامة أحياناً، ويعد الرضع وصغار الأطفال والنساء الحوامل والمسنون والأشخاص المصابون باعتلالات سابقة من الفئات المعرضة للخطر بشكل خاص، ويُصاب سنوياً 220 مليون طفل بأمراض الإسهال التي تودي بحياة 96000 طفل منهم بحسب منظمة الصحة العالمية، التي تؤكد من خلال تقرير صادر عنها عام 2023 على أن المواد الغذائية غير المأمونة تنتج 31 عاملاً من العوامل الممرضة (الجراثيم والفيروسات والطفيليات والسموم والمواد الكيميائية) التي تؤدي إلى سوء التغذية أو أمراض أخرى، مثل جرثومة الليسترية التي تعد من أخطر الأمراض المنقولة بالأغذية والتي تتواجد في مختلف أنواع الأغذية الجاهزة وتتسبب بإجهاض الحوامل أو وفاة المواليد وكبار السن، أو مثل السموم الفطرية التي يمكن تواجدها في معلبات الذرة أو الحبوب المتعفنة على مستويات مرتفعة وقد تسبب على المدى الطويل من تناولها تأثير في الجهاز المناعي والنمو الطبيعي أو تسبب الإصابة بالسرطان. 

ضعف آليات الإبلاغ والعقوبات يزيد من انتشار المواد الفاسدة

وعن آليات الإبلاغ عن المواد الفاسدة ومنتهية الصلاحية، فقد أكد 38 شخصاً أنهم لم يبلغوا عن المواد منتهية الصلاحية التي واجهوها، في حين أبدى 17 شخصاً عدم الثقة في فعالية الإبلاغ، وهذه الأرقام تعكس غياب قنوات واضحة وفعالة للإبلاغ عن المنتجات الفاسدة، وفي الوقت ذاته، أشار 21 شخصاً إلى أنهم لا يعرفون كيف يمكنهم تقديم بلاغات، مما يوضح الفجوة الكبيرة في الوعي حول آليات الرقابة وحماية المستهلك ولعل الأكثر دلالة هو أن 23 شخصاً واجهوا البائعين مباشرة دون اللجوء إلى الجهات الرقابية، مما يعكس ضعف الثقة بالمؤسسات المعنية وعدم فعالية نظام الشكاوى.

https://www.facebook.com/share/p/29b4ueG3SeF1Espv/ 

وعن رأي العينة المستهدفة من خلال الاستبيان حول رقابة السلطات المحلية، فقد أعرب أكثر من نصف المشاركين (52 شخصاً) عن رأيهم بأن الرقابة من قبل السلطات المحلية ضعيفة، مما يشير إلى قصور واضح في التدابير الوقائية. وفي المقابل، أفاد 21 شخصاً أن مستوى الرقابة “متوسط”، فيما أشار 17 شخصاً إلى وجود رقابة لكنها غير كافية لتلبية احتياجات السوق المحلية. هذه النتائج تؤكد أن هناك حاجة ماسة لتعزيز البنية الرقابية وتوحيد الجهود بين السلطات المحلية لتحسين مستوى الرقابة التموينية، خاصة مع انتشار ظاهرة المواد الفاسدة والمنتهية الصلاحية.

وعن أهم اقتراحات العينة المستهدفة من الاستبيان للحد من ظاهرة انتشار المواد الغذائية منتهية الصلاحية، أشار المشاركون والمشاركات إلى أهمية تعزيز وتحسين الرقابة التموينية من قبل السلطات المحلية، من خلال تشكيل فرق ميدانية متخصصة، وزيادة التنسيق بين الجهات المعنية لتوحيد معايير الرقابة، بالإضافة إلى ضرورة إطلاق حملات توعية للمستهلكين حول مخاطر استهلاك المواد الغذائية منتهية الصلاحية وأهمية الإبلاغ عن المواد الفاسدة، ورفع مستوى العقوبات المفروضة على التجار والمستوردين الذين يتعاملون بالمواد الغذائية الفاسدة حيث أن العقوبات الحالية غير رادعة كما تبيّن لنا، حيث تقتصر على مصادرة المواد ودفع غرامات بسيطة.

يبرز التحقيق بوضوح هشاشة أنظمة الرقابة في شمال سوريا، ويكشف عن واقع مأساوي يعاني فيه السكان من مخاطر صحية نتيجة استهلاك مواد غذائية غير آمنة، ضعف الرقابة التموينية، وتداخل السلطات، وانتشار الفساد كلها عوامل أدت إلى تفاقم هذه الأزمة في ظل استمرار الفوضى، ليبقى الحل مرهوناً بتوحيد الجهود بين السلطات المحلية، وتعزيز الرقابة، وتفعيل القوانين الدولية، أما في الوقت الحالي، فالسكان هم الضحية الأولى لهذا الإهمال المستمر.

 

تم إنجاز هذا التحقيق بالتعاون مع “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وبإشراف المدربة الدكتورة منى عبد المقصود. 

 

شارك