جسر – دمشق (علي الأحمد)
هو ليس مقهى عادياً، إنه موسوعة لمذكّرات السوريين وذكرياتهم لعقود كثيرة خلت، وساحة حوار سياسي أسكتتها مخابرات نظام الأسد المخلوع منذ اغتصابه للسلطة في سوريا.
تأسس مقهى “الروضة” الدمشقي عام 1937، على نمط البيوت الدمشقية القديمة، تتوسطه “بحرة” شامية، يجتمع حولها رواده، للأنس والترفيه وتبادل الأحاديث. سقط الأسد، وسقطت معه الأحاديث الناعسة، وتحول المقهى إلى ساحة تغلي، بعد 13 عاماً من الظلم والاستبداد وكم الأفواه.
تشاهد في “الروضة” اليوم، نساء ورجال وشيوخ ولأول مرة منذ سنوات طويلة يستطيعون الكلام بحرية، بعد أن كسرت قيودهم، وبريق تلاحظه في عيونهم فرحاً بالتحرر من العبودية.
يتوسط المقهى مدينة دمشق في نهاية شارع “العابد” مقابل البرلمان، ما جعله وعلى مر عقود، مساحة للمثقفين والسياسيين والأدباء، من أمثال الراحلين ممدوح عدوان وأدونيس ومحمد الماغوط والشاعر العراقي سعدي يوسف، وأيضاً من السياسيين مثل الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي درس في جامعة دمشق سنوات عدة.
لمقهى الروضة ذاكرة سياسية ساهم بها وعززها قربها من البرلمان، حيث استقطب شخصيات فاعلة في العمل السياسي السوري بعضها وضع وزارات، وشهد مرحلة الإنقلابات العسكرية وما تلاها من مراحل بحلوها ومرها، وحول “بحرتها” دارت حوارات “ربيع دمشق”، ولكن في عهد الأسد الهارب اختفى المثقفون ورواد السياسة وصناع الأدب، أما اليوم فلم يتردد هؤلاء بزيارة مقهى الروضة بعد غياب طويل، غير آبهين بالاعتقال والتقارير الكيدية وظلام السجن الذي كان يهددهم كلما نطقوا.
العم “أبو محمد” في العقد الثامن من عمره، أكد خلال حديثه لصحيفة “جسر” أنه منذ خمسين عاماً لا يشعر بالراحة إن لم يتواجد يومياً في المقهى ليلعب طاولة الزهر مع أصدقاء العمر ويشرب الشاي “الخمير”، ويقول: “أنا في مقهى الروضة خبرت السياسة، واستمعت لروائع الأدب والشعر، رأيت نجوم التلفاز عن كثب، غريب أمر هذا المقهى الذي جمع كل شيء، وغاب عنه كل شيء في ظل الأسد”.
أما العم يونس شلاح الذي قال إنه يرتاد مقهى الروضة منذ عشرين عاماً، لم يشاهد الكثير من الأحداث السياسية باستثناء الأحداث السورية التي جرت في ظل حكم الطاغية بشار الأسد عام 2011، وباعتباره من الزوار اليوميين وصف لنا المشهد قائلاً: “مع كل يوم يمر كانت تزداد وجوه الناس شحوبة وحزناً، والحديث تحول إلى حديث عن تحقيق المعجزات في تأمين الطعام للعائلة والأولاد، وغلاء المعيشة، والجميع كان يعلم المسببات، ولكن لا نجرؤ على الكلام لأننا على يقين أن كل أفرع مخابرات الأسد أرسلت عناصر لها لتحاسبنا حتى على الكلام، وكنا نقول الحيطان لها آذان”.
وأكد العم شلاح أن “مقهى الروضة” تغيرت معالمه بعد سقوط نظام الأسد، وعاد ليعج بالوجوه المبتسمة والمتفائلة، الأمر الذي يؤكد أن المستقبل المشرق لسوريا يكتب من جديد بعد كسر قيود الظلم الأسدية.
أحمد كوزوروش صاحب المقهى تحدث لـ”جسر” عن بعض التفاصيل المخفية التي جرت في المقهى والتي لا يعلم بها إلا القليل، فأول فتاة دخلت إلى مقهى الروضة كان في العام 2001، بالإضافة إلى أن المقهى احتضن العشرات من الشباب والشابات من هواة الفن والتمثيل وطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، جميعهم كانوا ينتظرون قدوم الممثلين والمخرجين من الصف الأول كالفنان رفيق سبيعي والمخرج حاتم علي وغيرهم من أسماء لامعة كثيرة، وأصبحوا اليوم من نجوم الصف الأول.
يتحدث كوزوروش بحرقة عن الحقبة الزمنية الماضية، كيف وأدت العقول والأفكار، وكيف كان يشتاق للحظة التي ستعود فيها قهوة “الروضة” كما كانت، جامعة وموحدة للسوريين والعرب والأجانب بثقافاتهم ومعتقداتهم.
لم يكن “مقهى الروضة” جامعاً للسوريين فقط، إنما تعدى ذلك ليكون جامعاً للعرب والأجانب أيضاً، ستدخل المقهى اليوم وتسمع مزيجاً من اللهجات واللغات، من شرق آسيا إلى أوروبا وصولاً للأميريكيتين، تمتزج لهجاتهم ولغاتهم مع صوت النرد على خشبة طاولة الزهر. إنه المقهى البسيط المعبر بأبسط شكل عن سوريا الحرة.